زميلي وصديقي الكاتب المبدع حرّ الإرادة
زميلي وصديقي
الكاتب المبدع حرّ الإرادة
الكاتب المبدع حرّ الإرادة
اشكرك على انتخابى فى التجديد النصفي
مارس 2007
وأعدك أن أكون عند حسن ظنك بي
لن أسكت عن فساد
لن أتهاون في حق
لن أسكت عن فساد
لن أتهاون في حق
ضد التشبث بالكراسي
ضد المصالح التي يخلقها الركود
285
شكرا خاص لكم
ضد المصالح التي يخلقها الركود
285
شكرا خاص لكم
و
1000
شكر
قصَّةُ بَقرَتَيْن! TALE OF TWO COWS! بقلم/ كمال الجزولى
صديقى سمير عبد الباقى ، شاعر العاميَّة المصريَّة الكبير ، من أشعر خلق الله ، ومن أظرف خلق الله ، ومن أكثر خلق الله إثارة للجدل فى مناخات القاهرة المشبّعة ، أصلاً ، بالجدل سياسياً وفكرياً وأدبياً! سهرت فى ضيافته ، هذا المساء ، بصحبة الياس فتح الرحمن ، الشاعر والناشر الجميل ، وهشام السلامونى ، المفكر والناقد الستينى المرموق الذى هجر طبَّ العيون لينشغل بأسئلة مصر والسودان والعالم العربى الشائكة
ولسمير أسلوبه الفريد فى التعبير عن مشاعره. فحين دلفنا ثلاثتنا من باب شقته الصغيرة التى يعيش فيها وحده وسط حى شبرا الشعبي كنت تهيَّأت لأن أعزيه فى زوجته التى توفيت قبل سنة وما سمعت إلا اليوم. غير أننا ألفينا سميراً منهمكاً فى الردِّ على محادثة تلقاها للتوِّ. كان يصيح برنَّة يجهد لجعلها أقرب إلى المرح ، مع أنه كان واضح الاحتشاد بحزن كالجبل
ـ "يا عمِّ خلاص! ألف رحمة ونور عليها .. كفاية! عايز تواسيني قول لي كلام يفرَّحني وبلاش غلب .. أرجوك"!
ثمَّ ما لبث أن علق سمَّاعة التلفون ليندفع يعانقني بتلقائيَّته الدافئة فى ليل القاهرة الصقيعي:
ـ "والله زمن يا عمِّ كمال .. بقى ده اسمو كلام؟! فينك يا راجل .. بقالنا سنين ما بنشوفكش .. هُمَّ اعتقلوك تاني ، وللا الياس بياخدك مننا ، وللا إيه الحكاية بالضبط"؟
بدا لى ، لحظتها ، أننى إن لم أسقط جُلَّ عبارات العزاء التى كنت أعدَتها ، فسيقول لى فى وجهى إننى ثقيل! لذا اكتفيت بإدغام عبارة "البقية ف حياتك" بين جلجلة القهقهات التى فرقعت فى غرفة الاستقبال الصغيرة. لكنه ، وكأنْ لم يسمع شيئاً ، إنطلق يصيح ، عبر النافذة ، لبائع الكباب والكفتة فى الدور الأرضى كي يصعد بطلبات العشاء ، بينما كان يلتقط من رفِّ المكتبة أحد دواوينه القديمة ، ويصيح بذات الحماس:
ـ "إستنوا .. استنوا لما أقرالكم القصيدة إللى كنت أهديتها لكمال وجيلى ، بعد انقلاب السودان ، لمَّا كمال أعتقل وجيلى توفى"
ورغم أننا كنا سمعناها ، من قبل ، إلا أن طلاوة الصور وفرادة التراكيب وحلاوة الإلقاء المتمكث العميق ، أخذتنا جميعها على موجة عالية من المتعة والتأمل ، وجعلتنا نستزيده ، القصيدة تلو القصيدة ، حتى انقضت السهرة وهو يضع ديواناً ويرفع آخر ، بما فى ذلك "نهنهات المشيب" ، "جمر مطفي فى حرايق الروح" ، "ولا هُم يحزنون" ، "دفاتر إبن عبد الباقي ـ آخر حدود الزجل" ، فضلاً عن إصدارته غير الدوريَّة الموسومة بـ "شمروخ الأراجوز" التى درج على تذييلها بعبارة "نشرة شعريَّة مصريَّة على قدِّ الحال. لا جريدة ولا جرنال ولا حتى مجلة. ومستقلة عن أىِّ حزب وأىِّ مِلة. عايشة بنفسكم مش بسِّ بفلوسكم. والغاوى ينقط بطاقيته. وأهلاً بالأصدقاء ، زجَّالين وفنانين وشعراء"
يحزننى أن إبداع سمير ما عاد معروفاً كثيراً فى السودان ، مع أن اسمه كان يرنُّ بيننا رنيناً وهو بعد فى بداياته قبل زهاء الثلاثين سنة ، خاصة عندما شكل مع المرحوم الموسيقار المُغنى عدلى فخرى ثنائياً ثورياً هزَّ أوساط الشباب والطلاب ، بالذات ، هزَّاً عنيفاً ، بالأخص عندما ذهبا ليعيشا مع اللبنانين مآسى الحرب الأهليَّة ، ومن هناك كانت تخرج أشرطتهما لتجوب الآفاق العربيَّة بأسرها ، من البحر إلى البحر
في ظل الرأسمالية الوارف
قال لك آه
قال لك إيه
مين اللي قال هذا الكلام الدّر
غير فهْلوي مصري
و عصري وحـّر
شربها مـرّ وعاشها إستعباد
لكنه عشق البلاد
وحن ع الأجنبي إلا الغشوم الغبي
موسي نبي
عيسي نبي
محمد نبي
وكل من له نبي يصلي عليه
قال لك آه
قال لك إيه
الطمي واحد و لكنه الشجر ألوان
والوردة أحلي جوه في بستان
مين اللي قال هذا الكلام اللوز
غير مصري أراجوز
عجوز وخبرة بجوهر الأنسان
ورموش عيونها – حبيبته
تفرش الفدان
يقبل حدود الحياة في شرف وقبول
يعيشها كان يا ما كان
وكن فيكون وزي ما تكون
ويرضي ويقول ألسطة
وهيّ كل شن شن كان
لكن يراعي الأصول
في الصحبة والقربي
ويقسم اللقمة لو حكمت
مع اللي جعان
يعيش علي الفول
ولا يرضي بلقمة حرام
يحفظ مقام الكبير السن والعاجز
يحق نفسه لصاحب الحق بالمعقول
ولا يستريح في حضرة السلطان
للملعب اللولبي
موسي نبي
عيسي نبي
محمد نبي
وكل من له نبي بكيفه
يصلي عليه
مين اللي قال هذا الكلام الدّر
غير فهْلوي مصري
و عصري وحـّر
شربها مـرّ وعاشها إستعباد
لكنه عشق البلاد
وحن ع الأجنبي إلا الغشوم الغبي
موسي نبي
عيسي نبي
محمد نبي
وكل من له نبي يصلي عليه
قال لك آه
قال لك إيه
الطمي واحد و لكنه الشجر ألوان
والوردة أحلي جوه في بستان
مين اللي قال هذا الكلام اللوز
غير مصري أراجوز
عجوز وخبرة بجوهر الأنسان
ورموش عيونها – حبيبته
تفرش الفدان
يقبل حدود الحياة في شرف وقبول
يعيشها كان يا ما كان
وكن فيكون وزي ما تكون
ويرضي ويقول ألسطة
وهيّ كل شن شن كان
لكن يراعي الأصول
في الصحبة والقربي
ويقسم اللقمة لو حكمت
مع اللي جعان
يعيش علي الفول
ولا يرضي بلقمة حرام
يحفظ مقام الكبير السن والعاجز
يحق نفسه لصاحب الحق بالمعقول
ولا يستريح في حضرة السلطان
للملعب اللولبي
موسي نبي
عيسي نبي
محمد نبي
وكل من له نبي بكيفه
يصلي عليه
قال لك آه
كان إيه جري لنا يا صحاب الخير
النيل تلوث وسلم مركبه للغير
وانبح صوت الطير وصابه البلا
صابه اللي ما قدرشي عليه بالمرض
لما خلط حلمه بدنئ الغرض
بالجهل والكدب كرّه عزته في رضاه
نفق بأنفلوانزا مستورده
اتعودوا المؤمنين الزعيق في الصلاه
والكل أصبح يغني علني علي ليلاه
يبوس ايدين مولاه ويتف علي دقنه
كله بياكل لحم أمه وابوه
دايس في بطن أخوه
أعمي البصيره متلهي ف شأنه
القرش أصبح ضمير
وابن الأنيتة أمير
والكره صار الشريعة والغضب قوانين
استفحل الأجنبي
النيل تلوث وسلم مركبه للغير
وانبح صوت الطير وصابه البلا
صابه اللي ما قدرشي عليه بالمرض
لما خلط حلمه بدنئ الغرض
بالجهل والكدب كرّه عزته في رضاه
نفق بأنفلوانزا مستورده
اتعودوا المؤمنين الزعيق في الصلاه
والكل أصبح يغني علني علي ليلاه
يبوس ايدين مولاه ويتف علي دقنه
كله بياكل لحم أمه وابوه
دايس في بطن أخوه
أعمي البصيره متلهي ف شأنه
القرش أصبح ضمير
وابن الأنيتة أمير
والكره صار الشريعة والغضب قوانين
استفحل الأجنبي
واستقوي عبد المعين بينوع التفانين
صبح الدولار النبي
والمفتي صلي عليه
وصاحب العيبة استوي ع العرش بالدستور
آمر وهو ف حقيقته عبد للمأمور
وحده لوحده
اللي يعلم خافيَ المستور
لا موسي حتي ولا محمد
ولا عبسي
كل السنين أصبحت مسحورة وكبيسة
كل الأمم زي الذمم مكسورة
كل الغيطان مهجورة
كافة جوامع كنايس معابد المعمورة مأجورة
كل البطون الحوامل بالأمل مبقورة
والكل رايح لأجله
بكل قيافة وحماسة
فاكرها لعبة سياسة
وأنا كان في نفسي
أحبك قد أمي و أختي
وأسكنك جوه قلبي حلم
كنك بختي
نطير سوا وكأننا زغاليل
أول ما شفتي النيل ذليل صرختي
موسي نبي
عيسي نبي
محمد نبي
ليه كل من له نبي
ليه اتلهي وناسيه
ولا حد فاكر نبيه
صبح الدولار النبي
والمفتي صلي عليه
وصاحب العيبة استوي ع العرش بالدستور
آمر وهو ف حقيقته عبد للمأمور
وحده لوحده
اللي يعلم خافيَ المستور
لا موسي حتي ولا محمد
ولا عبسي
كل السنين أصبحت مسحورة وكبيسة
كل الأمم زي الذمم مكسورة
كل الغيطان مهجورة
كافة جوامع كنايس معابد المعمورة مأجورة
كل البطون الحوامل بالأمل مبقورة
والكل رايح لأجله
بكل قيافة وحماسة
فاكرها لعبة سياسة
وأنا كان في نفسي
أحبك قد أمي و أختي
وأسكنك جوه قلبي حلم
كنك بختي
نطير سوا وكأننا زغاليل
أول ما شفتي النيل ذليل صرختي
موسي نبي
عيسي نبي
محمد نبي
ليه كل من له نبي
ليه اتلهي وناسيه
ولا حد فاكر نبيه
لجلن يصلي عليه غرق العجوز الفهلوي ف دمه
وخرس معاه الكلام الشعرا والأنبيا
قطعوا لسانه
بسيف مسنون حجر صوان
مصهور علي جمر تجار كافة الأديان
وحزن فلاحة ..وموت أراجوز
في مديح السفاحين
مقالات جرايد عوالة لصفوة م الكتاب
بتصوّر السفاحين القتلة والأذنــــــاب
شهداء وهمة بلونا بشرعة الارهــــاب
إيه اللي يبقي لهذا العالم الممحـون
اللي شريفه اتقهر من كدبهم مطحـــون
غير إنه يا ينتحر أو ينفجر مجنـــــــون
يدبح بإيده الفريسة لصاحب الأنيــاب
صدام ضحية غرورة وشهوته وعمــاه
زيـّه كزي اللي زيـّه ف سلطته و غبــــاه
إذ كل منهم مصدق ما في رب سواه
يدوس بكعبة علي رقب البني آدمين
يعـّود الخلق حين ينخع يقولوا آميــن
يفرض تراويح عبادته بدل صحيح الديـــن
يُميت ويحي ما فيش غيره زعيــــم وإله
وحده بعساكره وأزلامة صحــاب الدار
وشعوب بحالها ف أرابيزه تخش النار
يا تعيش ذليلة تغمس ذل عيشـــها مرار
شباب كما الورد يدبل في سجونه يمــــــوت
و نساء صبايا يضيعوا ضحية الجبروت
وباسم مجد الوطن يمشوا وراه للمـــوت
يا يعيشوا اكياس بطاطا باسم لاستقرار
ولما تيجي النهاية السودة طبـــيعية
أو غير طبيعية بايد عملاء وحرامـــــية
قربتنا فوق راسنا تشلب دم مش ميـــه
يتقال يا عيني عليه دا كان وكان لســــة
مع إن دم الضحايا مـــــانشف ننسي
واللي بسكينته دابـحة مقاسمه في الحصة
وشين كتابه وملك في حكـــايه تاريخية
قاتل ومقتـــــــول ضحية واتقتل قاتل
عجلة ودوارة لكن في مدار عـــــاطل
هذا دابح شعبه هذا لص ومخاتـــــل
في عصابة دولية بايعة تشتري فينا
واحنا الضحية لخيابـــــــــــتنا وبلاوينا
إذ جهلنا بالتاريخ نعمة بترضينــــــــــا
وكأنه مكتوب علينا نلغّ في الباطــــل
مقالات جرايد عوالة لصفوة م الكتاب
بتصور السفاحين القتلة والاذنــــــاب
شهداء وهمّه بلونا بشرعة الارهــــاب
ايه اللي باقي لهذا العالم الممحـون
اللي شريفه اتقهر من كدبهم مطحـــون
غير انه يا ينتحر او ينفجر مجنـــــــون
يدبح بإيده الفريسة لصاحب الانيــاب
بتصوّر السفاحين القتلة والأذنــــــاب
شهداء وهمة بلونا بشرعة الارهــــاب
إيه اللي يبقي لهذا العالم الممحـون
اللي شريفه اتقهر من كدبهم مطحـــون
غير إنه يا ينتحر أو ينفجر مجنـــــــون
يدبح بإيده الفريسة لصاحب الأنيــاب
صدام ضحية غرورة وشهوته وعمــاه
زيـّه كزي اللي زيـّه ف سلطته و غبــــاه
إذ كل منهم مصدق ما في رب سواه
يدوس بكعبة علي رقب البني آدمين
يعـّود الخلق حين ينخع يقولوا آميــن
يفرض تراويح عبادته بدل صحيح الديـــن
يُميت ويحي ما فيش غيره زعيــــم وإله
وحده بعساكره وأزلامة صحــاب الدار
وشعوب بحالها ف أرابيزه تخش النار
يا تعيش ذليلة تغمس ذل عيشـــها مرار
شباب كما الورد يدبل في سجونه يمــــــوت
و نساء صبايا يضيعوا ضحية الجبروت
وباسم مجد الوطن يمشوا وراه للمـــوت
يا يعيشوا اكياس بطاطا باسم لاستقرار
ولما تيجي النهاية السودة طبـــيعية
أو غير طبيعية بايد عملاء وحرامـــــية
قربتنا فوق راسنا تشلب دم مش ميـــه
يتقال يا عيني عليه دا كان وكان لســــة
مع إن دم الضحايا مـــــانشف ننسي
واللي بسكينته دابـحة مقاسمه في الحصة
وشين كتابه وملك في حكـــايه تاريخية
قاتل ومقتـــــــول ضحية واتقتل قاتل
عجلة ودوارة لكن في مدار عـــــاطل
هذا دابح شعبه هذا لص ومخاتـــــل
في عصابة دولية بايعة تشتري فينا
واحنا الضحية لخيابـــــــــــتنا وبلاوينا
إذ جهلنا بالتاريخ نعمة بترضينــــــــــا
وكأنه مكتوب علينا نلغّ في الباطــــل
مقالات جرايد عوالة لصفوة م الكتاب
بتصور السفاحين القتلة والاذنــــــاب
شهداء وهمّه بلونا بشرعة الارهــــاب
ايه اللي باقي لهذا العالم الممحـون
اللي شريفه اتقهر من كدبهم مطحـــون
غير انه يا ينتحر او ينفجر مجنـــــــون
يدبح بإيده الفريسة لصاحب الانيــاب
كلام من القلب من باب الصدق المنعكش
هوْ هوْ يا كلب العرب حلّق وبسْ عليه
قوم فِز وانهش جراح تاريخنا همّـك إيه
إعمل بأكلك أكم لحمي طبخهو لك..
رقصت ع الرّافدين يا ما وبست ايديه
**
واما اتغدر ناوي ليه ع الجثة تعمل بيه؟
قوم فِز وانهش جراح تاريخنا همّـك إيه
إعمل بأكلك أكم لحمي طبخهو لك..
رقصت ع الرّافدين يا ما وبست ايديه
**
واما اتغدر ناوي ليه ع الجثة تعمل بيه؟
إلي إيمن نور
ذنبك يا أيمن
إنك صـّدقت
صدقت قريبك
في براءة
فكشفت له عيبك
صدّقت عدوك
بحماقة
وعملته نسيبك
ما فـّرقتش
بين اللي بيفحت ليك
وبين مين في الزّفة حبيبك
صدقت بإن الحداية
بتحدّف كتاكيت
وان القطة الـلــّايدة
ح تخجل م التبكيت
وان الديموقراطيه من الإتيكيت
إيزوريس يا إبني
ما كانش منوفي
وإيزيس مش جنيـّة
لكنه الهم
اللي كلـّت منه كتوفي
ما كانش هزار
ولا صورة شعرية
دي سياسة
بحرها كلـّه
ف عصر النـّخـّاسة – نجاسة
لكن بشويش وكياسة
تلهفها بكل حماسة
من غيـْر ما تزعل أي شاويش
من غيـْر ما تخرج بـْرة البراويز
تفهمها بدون أي حساسة
إن الحلــْم
ماهوّاش علم
وتلعبها بكل طفاسة
كأن العلم
ما هواش فيلم
لعبة غدرخباثة
سابقة التجهيز
وعشان يسمح لك بالتنفيذ
لازم يبقي لك ضهر و عكاكيز
دانا ياللي بلدياتك
وعلي نيـّاتي زي حالاتك
إستعجبت في هذي الأيام السودة
إنك صـّدقت
صدقت قريبك
في براءة
فكشفت له عيبك
صدّقت عدوك
بحماقة
وعملته نسيبك
ما فـّرقتش
بين اللي بيفحت ليك
وبين مين في الزّفة حبيبك
صدقت بإن الحداية
بتحدّف كتاكيت
وان القطة الـلــّايدة
ح تخجل م التبكيت
وان الديموقراطيه من الإتيكيت
إيزوريس يا إبني
ما كانش منوفي
وإيزيس مش جنيـّة
لكنه الهم
اللي كلـّت منه كتوفي
ما كانش هزار
ولا صورة شعرية
دي سياسة
بحرها كلـّه
ف عصر النـّخـّاسة – نجاسة
لكن بشويش وكياسة
تلهفها بكل حماسة
من غيـْر ما تزعل أي شاويش
من غيـْر ما تخرج بـْرة البراويز
تفهمها بدون أي حساسة
إن الحلــْم
ماهوّاش علم
وتلعبها بكل طفاسة
كأن العلم
ما هواش فيلم
لعبة غدرخباثة
سابقة التجهيز
وعشان يسمح لك بالتنفيذ
لازم يبقي لك ضهر و عكاكيز
دانا ياللي بلدياتك
وعلي نيـّاتي زي حالاتك
إستعجبت في هذي الأيام السودة
إزاي عـدّيت
علي كل دي بزابيز
وما شفتش
كل دي مهاميز
واستقتلت..ما صدقتش
إنها محسوبة
ما فهمتش
حكمة غرَق النوبة
و لا مغزي خيبة توشكي
و لا حواديت الضربة الجـّوية
والسر ورا الطوبة
اللي ما بتصيبش الا العرقوبة
ما حرمتش من دي النوبة
ما دقتش خبز التوبة
وصدقت ان القرعة
المزروعة في الصوبة
طبيعية
وإن اللي جعانة
بتعزم ع الفتة جيرانها
وإن الهاتمة
بتكشف علي ضـرّتها اسنانها
***
فاصبر يا صاحبي
علي ليل الزنزانة ..
إستحمل انت ف مصر ..
اللي كاتم علي نفسك
قاتل مستقتل
واللي معاك أو زيـّك
شايل متحمل ذنبه
و بيتجمـّل
الشبعانة جبانة
والكركوبة السهتانة راضية
بدور الكومبارس
ذاك لأن اللي تعوزه
المستعفية
متحـّرم شرعياً في بلدناعلي العيانة
شكشكة
كنـّا زمان فيه الصديـــــق عنده وقت
وقت يلاقيـــــك . وتروح له في أي وقت
جالنا زمـــــان صيرنا فيه قربة واحدة
عايشين منـــاهدة ما حد فيه عنده وقت
**
طارحة الحضــــارة المرارة حصادها في كل وقت
علي بوابات الجحيم
قلبي مقرفص ع الرصيف
مهموم
بيبيع خًضار مشموم
لأهل المدن
مقسوم
ما بين حق الرغيف والنوم
وحق تصاريف الزمن
يبكي مصير الريف
لعبد مشوم
كان لك مخبي فين
يا طفل عجوز
تشيل لشوشتك
كل هذي المحن
ولا تنحني لطبيعة الأراجوز
ف تعوم
ولا تنكسر روحك بعشق الوطن
و تكتئب في حضن فلاحة
تقطف عنب ما تحسش الراحة
علي كل دي بزابيز
وما شفتش
كل دي مهاميز
واستقتلت..ما صدقتش
إنها محسوبة
ما فهمتش
حكمة غرَق النوبة
و لا مغزي خيبة توشكي
و لا حواديت الضربة الجـّوية
والسر ورا الطوبة
اللي ما بتصيبش الا العرقوبة
ما حرمتش من دي النوبة
ما دقتش خبز التوبة
وصدقت ان القرعة
المزروعة في الصوبة
طبيعية
وإن اللي جعانة
بتعزم ع الفتة جيرانها
وإن الهاتمة
بتكشف علي ضـرّتها اسنانها
***
فاصبر يا صاحبي
علي ليل الزنزانة ..
إستحمل انت ف مصر ..
اللي كاتم علي نفسك
قاتل مستقتل
واللي معاك أو زيـّك
شايل متحمل ذنبه
و بيتجمـّل
الشبعانة جبانة
والكركوبة السهتانة راضية
بدور الكومبارس
ذاك لأن اللي تعوزه
المستعفية
متحـّرم شرعياً في بلدناعلي العيانة
شكشكة
كنـّا زمان فيه الصديـــــق عنده وقت
وقت يلاقيـــــك . وتروح له في أي وقت
جالنا زمـــــان صيرنا فيه قربة واحدة
عايشين منـــاهدة ما حد فيه عنده وقت
**
طارحة الحضــــارة المرارة حصادها في كل وقت
علي بوابات الجحيم
قلبي مقرفص ع الرصيف
مهموم
بيبيع خًضار مشموم
لأهل المدن
مقسوم
ما بين حق الرغيف والنوم
وحق تصاريف الزمن
يبكي مصير الريف
لعبد مشوم
كان لك مخبي فين
يا طفل عجوز
تشيل لشوشتك
كل هذي المحن
ولا تنحني لطبيعة الأراجوز
ف تعوم
ولا تنكسر روحك بعشق الوطن
و تكتئب في حضن فلاحة
تقطف عنب ما تحسش الراحة
و أنت المعطّر بالعسل والتوت
كان فين تهم
بتنتشي وتفوت
كاسر حدود السكوت
شمروخك النبوت
يلاغي الطير
يشم طين البراري
خد تفاحة
يستطعم النعمة
في عرق الفقير
ولا يستجير
غير من آهات الغير
فرحان بنفسه
وجاي علي نفسك
كنّـــك مكتف
في معايب أمسك
تخونك العشرة
وماء النيل
وصمت الحزن
لما فرهدتنا الخيل
تخونك الحنية في المواويل
الليل ما عدش رحيم
ولا النهار طيب
الموت علي مهله
كإنه قريب
ينط قلبك
زي طفل غشيم
يقرفصك علي رصيف الوطن
تبيع قصايدك
سحت بالمليم
تمن الرغيف
وحق عشق قديم
ناكر صداه الصوت
فاكر مداه العطش
حاكم عليك
جوع اليتيم بالهوي
مرة القصايد
و ما عادش فيها الدوا
بتمزعك ما بين وبين
بنابين
عشم الأبالسة
في النعيم الجنة
كان فين تهم
بتنتشي وتفوت
كاسر حدود السكوت
شمروخك النبوت
يلاغي الطير
يشم طين البراري
خد تفاحة
يستطعم النعمة
في عرق الفقير
ولا يستجير
غير من آهات الغير
فرحان بنفسه
وجاي علي نفسك
كنّـــك مكتف
في معايب أمسك
تخونك العشرة
وماء النيل
وصمت الحزن
لما فرهدتنا الخيل
تخونك الحنية في المواويل
الليل ما عدش رحيم
ولا النهار طيب
الموت علي مهله
كإنه قريب
ينط قلبك
زي طفل غشيم
يقرفصك علي رصيف الوطن
تبيع قصايدك
سحت بالمليم
تمن الرغيف
وحق عشق قديم
ناكر صداه الصوت
فاكر مداه العطش
حاكم عليك
جوع اليتيم بالهوي
مرة القصايد
و ما عادش فيها الدوا
بتمزعك ما بين وبين
بنابين
عشم الأبالسة
في النعيم الجنة
ولهفة العاشق
لحضن جحيـــــــم
لحضن جحيـــــــم
مساحة صغيرة للألم
ليه كل اما بيكبر سـّنك؟
الدون والعـرة بيغيروا..منك
والسـّو بيحكوا
غلّ وكدبا ً عنك
كنـّك خاطف لقمتهم
رزقتهم
أو قاطع سكـّتهم
مع إنك كل اللي بتعمله
علي قدك
يا دوب كـّل صباح
بتفتح وردك
تكتب لجل تدفيّ بشمس الحرّية
زواريق أرضك
ما بتقدرشي
ع اللي بيخرج عن يدّك
حتي لما بيرعشك البرد
ويشتد عليك
والضـلمة بتخرمسْ حواليك
لا بتطمع تدخل بيتهم
ولا حتي تخطي عتبتهم
ليه بيرشوا في طريقك
شوك حواديتهم
وبيحاصروك هلافيتهم
كارهينك ليه
مع انك يا ما غنـّيتهم
وداديت أطفالهم
وانت صغيـّر
وقصايد شعرك كانت بلسم
بيداوي حيرتهم
ليه يارب خلقت الجاهل
ما بيفهمش ان الدنيا بتتغيـّر
وان الانسان
كل اما بيكبر سنـّه
عقله بيكبر
ويشتد عليك
والضـلمة بتخرمسْ حواليك
لا بتطمع تدخل بيتهم
ولا حتي تخطي عتبتهم
ليه بيرشوا في طريقك
شوك حواديتهم
وبيحاصروك هلافيتهم
كارهينك ليه
مع انك يا ما غنـّيتهم
وداديت أطفالهم
وانت صغيـّر
وقصايد شعرك كانت بلسم
بيداوي حيرتهم
ليه يارب خلقت الجاهل
ما بيفهمش ان الدنيا بتتغيـّر
وان الانسان
كل اما بيكبر سنـّه
عقله بيكبر
لكن نفسه بيقصر
ركبه بتخشـّن
خطاويه تتعتر
لكنه يقدر يختار ويميز أكتر
بين اللي بيفت له لقمته
في الطبق المتكسر
واللي بيغرف له من قعر الأنجر
و بيقدر يفهم ويفسـّر
ما بين المتخفي خوف يتستر
وما بين المتداري غباوة
لكن ساعة العوزة بيظهر
ويفرق ما بين اللي ذنبه الأغبر
بيخلي لسانه يمرر
وسليم النـية الطيب
اللي غصب عنه
بيخلط سمه في السكر
ويقدّر .. ليه كل ما يكبر
ركبه بتخشـّن
خطاويه تتعتر
لكنه يقدر يختار ويميز أكتر
بين اللي بيفت له لقمته
في الطبق المتكسر
واللي بيغرف له من قعر الأنجر
و بيقدر يفهم ويفسـّر
ما بين المتخفي خوف يتستر
وما بين المتداري غباوة
لكن ساعة العوزة بيظهر
ويفرق ما بين اللي ذنبه الأغبر
بيخلي لسانه يمرر
وسليم النـية الطيب
اللي غصب عنه
بيخلط سمه في السكر
ويقدّر .. ليه كل ما يكبر
يقلق أكتر
يتحير يتكدر
ولا يقدرش يفسر
ليه الدون والعرّة بيغيروا منه
وليه السوّ بيحكوا غل وكدباً عنه؟
و ح يموت و لا يعرف
إنه لأنه ببساطة
مع إنه كبر سنـّه
وخرّف بقلاطة
ما كدبش علي روحه
وما خانش . . ولا في السر
ضميره وفنه
يتحير يتكدر
ولا يقدرش يفسر
ليه الدون والعرّة بيغيروا منه
وليه السوّ بيحكوا غل وكدباً عنه؟
و ح يموت و لا يعرف
إنه لأنه ببساطة
مع إنه كبر سنـّه
وخرّف بقلاطة
ما كدبش علي روحه
وما خانش . . ولا في السر
ضميره وفنه
في ذكري مبدع الرباعيات رباعيات وربع صلاح جاهين
كان نفسي أسمع منه غنوة برمهات
يجوز تحق الحق وتعيــــــد اللي فات
ومصر تطلع طاهرة م الماء المهيـــن
تزيح بفجر الفلاحيــــــــن ليل الموات
··
وبنبض سكان الصفيح تحي اللي مــات
OO
غنيت قصاقيص الورق و جــَمعتــــها
عاتبتني علي أيام نسيــــت بـْعترتها
الطفل دا اللي بـَخـَلت الدنيــــا عليه
علي نور عينيه أنا كنت أعمي شفتــــها
··
وانت بدمِا القلب الحزين ـ فرّحتهــــــا
OO
مين اللي قال ان الولد ده طـقّ مات
أمال ده مين اللي بزقـْزق أغنيـــــات
علي سطوح كل البيوت خمسيــن سنة
يشعل ف ليل الحزن شمس الخمسينـــــات
··
تخضر ّ صحْرا الهزيمة بزغاريد البنـات
OO
عديت علي الناصرية ســــــاعة زمن
سمعت علي سهــوة نغم فيه شجن
بيقول لي صاحبك عدي بر الزمـــالك
شفت المهالك عافقة رقب الــــوطن
··
ولمحته طفل طليــق وقلبه انسجن
OO
فين حضن أبوكي يا سعــاد من بعده
يا طير كساه ريشه في زهوة سعده
كبرتي في جنينته وكونتي تميـــمته
والا انتي كنتي قضاه ولعنة مجــــده
··
سوق اليتامي بيشغي لم يفســـــر رده
OO
كم من عيـــــال خـّلفت ولا ربّيـــــــت
عاموا علي بحر شِعرك زي بقــــع الزيت
نهشوك في غيبتــــــك وكانوا ضل في نورك
ولولاه حضورك ما عرفوا سكة الحواديت
··
وكانوا راحوا كما لاحوا خيال مســــاخيط
OO
يجوز تحق الحق وتعيــــــد اللي فات
ومصر تطلع طاهرة م الماء المهيـــن
تزيح بفجر الفلاحيــــــــن ليل الموات
··
وبنبض سكان الصفيح تحي اللي مــات
OO
غنيت قصاقيص الورق و جــَمعتــــها
عاتبتني علي أيام نسيــــت بـْعترتها
الطفل دا اللي بـَخـَلت الدنيــــا عليه
علي نور عينيه أنا كنت أعمي شفتــــها
··
وانت بدمِا القلب الحزين ـ فرّحتهــــــا
OO
مين اللي قال ان الولد ده طـقّ مات
أمال ده مين اللي بزقـْزق أغنيـــــات
علي سطوح كل البيوت خمسيــن سنة
يشعل ف ليل الحزن شمس الخمسينـــــات
··
تخضر ّ صحْرا الهزيمة بزغاريد البنـات
OO
عديت علي الناصرية ســــــاعة زمن
سمعت علي سهــوة نغم فيه شجن
بيقول لي صاحبك عدي بر الزمـــالك
شفت المهالك عافقة رقب الــــوطن
··
ولمحته طفل طليــق وقلبه انسجن
OO
فين حضن أبوكي يا سعــاد من بعده
يا طير كساه ريشه في زهوة سعده
كبرتي في جنينته وكونتي تميـــمته
والا انتي كنتي قضاه ولعنة مجــــده
··
سوق اليتامي بيشغي لم يفســـــر رده
OO
كم من عيـــــال خـّلفت ولا ربّيـــــــت
عاموا علي بحر شِعرك زي بقــــع الزيت
نهشوك في غيبتــــــك وكانوا ضل في نورك
ولولاه حضورك ما عرفوا سكة الحواديت
··
وكانوا راحوا كما لاحوا خيال مســــاخيط
OO
ساكن في حارة- مصاحب كل مَن فيها
من أول السـّيخ أبو زبيبة لحراميــــها
الكل فيها بيرطن سيمْ لسان واحد
وبقلب بــــــــــارد يحمّل غيره بلاويها
**
ولا ســـواه كان حداه بلسْم يداويها
OO
سلامتــــــك يا مدحت وألفين سلامة
ما أتعسهــــــــا سهرة وسكرة ندامة
بلاش منهـــــــــا دُكتر وكون قد سنك
كانت غلطة منك بشــــــــارة وعلامة
**
ح نمشي ف جنازتك في يوم القيـــــامة
من أول السـّيخ أبو زبيبة لحراميــــها
الكل فيها بيرطن سيمْ لسان واحد
وبقلب بــــــــــارد يحمّل غيره بلاويها
**
ولا ســـواه كان حداه بلسْم يداويها
OO
سلامتــــــك يا مدحت وألفين سلامة
ما أتعسهــــــــا سهرة وسكرة ندامة
بلاش منهـــــــــا دُكتر وكون قد سنك
كانت غلطة منك بشــــــــارة وعلامة
**
ح نمشي ف جنازتك في يوم القيـــــامة
الليلة التى سبقت وصول الجلاد
كان يحاول جاهدا اقناع نفسه، أن كل ما مر به حدث فى عصر آخر. لكن عقله كان عاجزا عن اختراق ركام الذكريات والسنين. فتشبث بوهم بارق من تلك الايام الخوالى التى لن تعود، يوم كانت الاشجار تتقن لغة الأطفال، وكانت الحقول تمنح الامان للطير.
ذات صباح قديم، سمع (قبرة) تحض قلب طفل صغير على التمرد:
لا تصدق كل ما تراه عيونك، أنت تتصور أن الحاضر باق الى الأبد، السماء لا تلمس الافق يا بنى ولا تحط فوق الاسوار العالية فى أى مكان، السماء ابعد من أن تنالها قبضتك الواهنة، صدقنى فنحن نرحل عبر مسافات لا نهائية. ونعرف أن العالم أكثر رحابة من قريتك، وأكثر عمقا من أفق الحقول الخضراء التى لا تعرف سواها.. العالم أحلى بكثير من الخرابة المغمورة بضوء القمر، وأرحب من حوش (القواسم) المزدحم بالأطفال المرضى.
اهتز ايمان الفتى بقدرة أشجار التوت. وابتدأ بقلب منشق يتأمل ما حوله من عجز. لكنه استجمع قواه فى المساء وقال لابيه العجوز الذى كان مشغولا باطعام بقرته الوحيدة الهزيلة وهو يصارع آهة ألم غير منظورة:
لم أعد أطيق كل هذا القدر من الدناءة، لم أخلق لحرث الأرض وشق المراوى. ما فائدة أن يزيد عدد التعساء واحدا. سوف أرحل ذات يوم، سأرحل بالتأكيد.
ومضى يحلم فى الليل بالسفر الطويل، ويبشر الآخرين فى النهار بالابعاد والمسافات.
وفى المقاهى الضيقة الدافئة ذات المقاعد الحجرية، أخذ يحدث الرجال عن البلدان البعيدة والمدن البيضاء. ويعنى لهم أشعارا عن طرق الفجر المضيئة التى تمر عبر زنازين السلاطين والملوك. ويفسر أحلاما غامضة عن أزمان لم تات أبدا منذ ظهر الانسان على الصخر النارى، ولكنها ما زالت تبدو اقرب من حبل الوريد.
ولكنهم كانوا غارقين طوال الوقت فى ظلام لزج من ليل القرية الكافر الذى لا يرحم ولا يحرر أحدا من هموم التفكير فى اليوم المضنى القادم.. ومعاناة الخوف من المجهول – فغرق معهم فى سحب الدخان الرخيص وأحضان النساء الجرداء..
لكنه ظل يتسلل الى الترعة ويتقافز على جسور القنوات الراكدة الماء، فى الليالى السوداء وفى الليالى القمرية ويحدث الصبايا الفقيرات ويمنهم – بعد أن يملا كفوفهم المعروفة بحبات الفول السودانى والعطر الرخيص – عن القناديل الزرقاء، التى تسرجها الفتيات العاشقات فى القرى الجبلية لعشاقهن الخارجين على القانون، وهو يعلمهن الكلمات الغامضة ذات الجرس الاخضر، والتى لها طعم القرفة ورائحة التمر هندى وصوت فيروز – تلك التى لم يرجع بسواها من رحلاته السبع فى البحار المجهولة المليئة بالمخاطر والمهالك..
وفوق كتفيه الناحلتين الهزيلتين، حمل أطفال القرية الصغار، وعلى قدميه الحافيتين مضى معهم يمشى خلف القوافل فى الدروب المجهولة، معتليا ظهور المراكب ذات الاربعين شراعا، أو ممتطيا الافيال الضخمة فى الجزر والوديان البعيدة، أو متعلقا بأطراف أجنحة الرخ الاسطورية، ليشاهدوا معه، ولو لوهلة خاطفة – تلك المدن والجبال التى يغمرها ثلج كالقطن وتملاها ضحكة الاطفال التى لم يعد يسمعها حتى فى الحلم.
أيامها كان الجميع أصدقاء له، ينتظرون قدومه مع المساء، كل ليلة فى شوق ولهفة. ورغم كل شئ كان يحبهم جميعا: أطفال الطريق المترب الصاعد حتى شاطئ البحر القديم، فتيات الجرن العاريات الاقدام، ظل قبة (سيدى مجاهد) الرطب، ضفادع المصارف الخضراء والسوداء ومياه السبيل العطنة الباردة، وحتى، روث الماعز النفاذ ورائحة الجميز (الباط)، وعيون البنت (مديحة النمر) ذات الانف والخدود الميئة بالنمش اللذيذ.
كانوا جميعا يصدقون كلامه، ويؤمنون به ايمانهم بأسرار الشيخ (أبو الرايات) ومعجزات (أحمد زنوبة) الباتعة، التى لا يجرؤ أحد على الشك فى تحققها وحدوثها على طول الزمان.. ورغم ذلك لم يستطيع أن يخطو خطوة واحدة، أو نصف خطوة، فى اتجاه تحقيق معجزاته الشخصية وأحلامه البسيطة. فالابواب المغلقة لم تكن قد سمحت بعد بامكانية التجاوز. ولم يكن هو قد أدرك بعد سر قوة الكلمات التى تملك طاقة الحركة والولوج – لقد كان صغير السن الى درجة لا تصدق، وكان قليل الخبرة بأساليب الجدل والمزايدة وتجميل الذات.
كان أيامها يملك قدرة واحدة، هى أن يستطيع حين يريد أن ينادى عليهم، وأيامها كانوا يهرولون نحوه من كل قرية ونجع، فيقودهم صغارا لغزو جنينة (أبو حسن) للحصول على الفاكهة التى لم تنضج بعد. أو يدفعهم صبيانا، لعبور البحر الصغير الى التلول لاصطياد طائر (أبو الخضير)، أو يحرضهم رجالا على اسقاط العمدة وتغيير مجلس إدارة الجمعية.
وعندما كان الليل يسقط فوق القرية فجأة، كعملاق جبار له ألف وجه (غول) مخيف وألف ذراع (عون) قادرة ومتعسفة، لم يكن يجد أمانا، إلا بالنظر فى عيون أصدقائه الضاحكة الذابلة، والتى كانت أيامها أكثر من أن يحصيها ساعة تحيط به، خلال أزمته. أو عندما يستلقى مستسلما وحده – فوق قش الاجران الندى، فى ليالى أكتوبر الباردة أو فوق رمال المنفى الحارقة الشوك.
بذلك جهدا خارقا فى جميع أشلائه المبعثرة فوق كثبان (المحاريق) الرملية، ليجد القدرة بعدها، فيزحف باختياره الحر الى حيث لا سماء ولا نجوم يمكن أن تزوره. بعدها ندم ندما حارقا على تسرعه، لأنه استسلم لهم بسرعة، وبلا مقاومة. وأضناه شعوره بالوحدة، وعذبة الاحساس بالانتهاك حتى غلبه النوم تاركا نجمته الصديقة تغيب عن المربع الحديدى المنتظم الاضلاع، وتتلاشى فى الابعاد اللانهائية. منذ زمان بعيد.. بعيد تعود أن يراها تسبح كل ليلة فى نفس المكان وفى نفس الموعد، عارية كجنية الحواديت. وكان يسعده أن يفكر فيها وأن يمد لها ذراعه محاولا أن يلمسها فى الظلمة وعندما كان يخيل إليه أنه أفلح فى احتوائها، كان يحس حنان الجسد البشرى الغض يزلزل جور الجدران العتيقة، صاعدا به رغم الاسوار الى حيث يسمع نبض الاجنة ويذوب فى دفىء الارحام.
يوم دعاها الى منزله أول مرة، لم تجد غضاضة فى الاستجابة لندائه دون تردد، هبطت من سمائها الى أرضه المتربة، ومضت معه عبر الباب الضيق والشوارع المفزعة فى غفلة من الحراس لتنام على صدره فوق السرير الفقير الذى كان يحملهما الى أركان الدنيا المسحورة. وفجأة – فى كل مرة وقبل أن تكمل الاحرف المهشمة شكل الكلمة العاشقة كانت عربة شرطة مجهولة الوجهة مشروخة الصوت تمقرق محدثة زلزلة وضجة، ممزقة حلمهما المشترك. لتلقى به فى مهاوى الشك والتردد، يحاصره رعب الأم وصراخ الاطفال فى الامكنة البعيدة. بعدها، يسمع صوت الاقدام الغجرية والاحذية الثقيلة وهى تتكاثر وتتزاحم صاعدة إليه السلم الحديدى لتدهمهما فى جنون. فيسرع مخفيا وجه حياته المشوه تحت الغطاء (الميرى) المزق – وينتحب..
قذفت فه أمواج الذكريات الكئيبة الى الظل الرطب.. فمد أصابعه تتخلل فى رفق حبات الرمال الباردة، تذكر أنها هجرته بارادتها الكاملة، ومضت خلف حلمها القديم بالثوب الابيض والتراتيل المقدسة والزغاريد، ولكن الرحلة الى الجبل، لم تكن على هذه الدرجة من الامان، فلم تكن أشجار الارز اليفة كأشجار الجميز. وارتعش النيل منكفئا من الرعب الى المستنقعات الاستوائية.. فهوت كصخرة خرساء، لتحترق فى حمام البيت الآيل للسقوط، وسط بخار الماء الساخن والصابون الرخيص، وهى تنادى عليه. هاجمت أنفه روائح قديمة مألوفة، فانشق صدره وامتلات عيناه بدموع جلفة..
ودار بعينه المختنقة بغمامة الذكريات المطيرة، بين أشجار الخروع وشجيرات الساسبان. وتابع ظلال رفاقه ذوى الايدى المرفوعة فوق الرأس، فى الطابور الطويل. وتأمل النخيل القزمى المتناثر منفيا فى الصحراء البليدة فتذكر نخلة عمه (الحيانية) العملاقة. وتجسدت أمام عينيه ابنة عمه الفائرة ذات الشعر الخشن والعين الحولاء. وحاصرته نظرتها الشبقة، وهى تختطفه الى (مدود) العنزة، لتدفن رأسه الصغير فى صدرها المتحجر البرى الغارق فى العرق النفاذ.. فلا يجد مفرا من الاستسلام المشوب بحب الاستطلاع واللذة، وهو لا يفهم تماما سر لهاثها الباكى.. وآهاتها المتألمة ودقات قلبها المتوترة، فيظل قلقا حتى تهدأ. لكنه يزداد شكا، لأنها لم ترض تماما، فيراها تبعده بجفاء على طول ذراعها، تاركة اياه أسير شعور قاتل بالخجل، لا يتناسب مع سنوات عمره القليلة، فتعود إليه غافرة مداعبة شعره القصير بلا حياء. وتصح عنه آمرة أن يساعدها فى سقى البهائم ونقل السباخ..
يصعد مرة أخرى مكررا محاولته.. الدائبة للولوج من النافذة الوحيدة ذات القضبان السميكة الصدئة المتقاطعة. يسقط ويعاود التسلق، ولكن الجدار كان عاليا لدرجة لا تصدق، وأدمت الحجارة أظافره، وخله الجوع.. فارتمى ضعيفا عاجزا، وتكوم تحت الغطاء مخفيا وجهه بكفيه النحيلتين، محاولا دفن هزيمته ونظراته المرتعبة فى أحشاء الفراغ المظلم الضيق المحصور بين ساقيه المنثنيتين والبطانية. ارتعشت أجفانه المبللة ثم هدأت متعبة، فحلم بالشطآن الت يغسلها الموج الأزرق حيث تتناول الاسماك طعامها فى هدوء الفلاسفة – ولكن ما أن تبينت عيونه أطراف النخيل الاستوائى، وما كادت همسات أمواج المحيط تطرق سمعه من بعيد حتى غرق فى نوم عميق، سكرانا برائحة القواقع والاعشاب الجافة، والجميز الباط، والزيت المقدوح فى الطاسات السوداء الفقيرة، مستنشقا دموع البنت (نجاة) حينما اعترف لها بحبه فصدقته باكية، وارتمت يائسة فوق صدره، محتمية من جنون أبيها وقسوة أمها، فأنعشته طراوة ضفيرتها الوحيدة وأيقظت حسه حرارة خدها، فأقسم لنفسه أن يتزوجها بمجرد عودته رغم سخرية أخته الكبيرة.. التى وقفت فى الركن تؤنبه بشدة، لأنه يزرع آمالا فى حقول مجدبة يعذبها الشوق للمطر، فحاول أن يجادلها مثبتا قدرته على رعاية بذوره، لكنها ثبتت عيونها فى عينه فأغمض معترفا بقلة حيلته، وهو يتذكر يوم هبط الى الارض فى زمان بعيد، متسلقا أشعة القمر الفضى هاربا من مؤامرات الجوارى الروميات الى عزبة الغجر ذات الحوارى الضيقة، مداعبا بناتها الفقيرات المشققات الكعب.. مقبلا وجناتهن المبقعة خلق وابور الطحين، أو فى ظل نخلات ياسين السبعة، أو خلف كرسى الوزير، وربما تحت سلالم قصر الوالى نفسه، لعب معهن العروسة والعريس وفى الزرائب وفوق السطوح ورغم صراخ (عيوشة المهبوشة) الى لا ينقطع، أو فى الجرن الخالى رغم تهديدات عمته يصطاد لهن – مظهرا البراعة الفائقة – الفراشات البيضاء وديدان الارض العمياء التى هرستها أحذية الجند حتى الموت، يوم أقبل المنادى الاكرش عليهم يدق طبلة المعادى، مناديا حراس الاسوار وبوابى العمارات المجاورة للانتقام منه، وليجرسوه وليهتكوا سره.
يومها كم تشابكت السياط فوق ظهره ورأسه وغامت عيونه بالدموع والعرق المالح فرأى المدن ترقد قتيلة يتصاعد منها دخان الحرائق، وصرخات المهزومين فى الشعاب الملتهبة حول (البردويل) و (عيون موسى) مختلطة برائحة المحاصيل المتعفنة والمياه الراكدة والبول الدموى.
وتذكر كيف كانت (الغولة) ذات العين المنطفأة تزوره تحت ستر العتمة فتلفه بذراعيها الخشنتين محاولة سحق قلبه تحت ضلوعها فيجاهد للافلات مذعورا، جافة فى عروقه الدماء، متحجرة تحت جفونه دموع اليأس والكلمات، فتتركه مغضبة متوعدة ايا بكل أنواع البلايا. منذرة أنها ستعود فى الصباح مكررة المحاولة، مرتدية ألف قناع وقناع. وستحكى له ما لم يعرف من حكايات الاشرار وسير الاخيار وستغريه للذهاب معها الى حدائق الرمان واعدة أنها سوف تعبر به الابواب المغلقة الى قصور الاحلام حيث جنيات الليل الطيبات ينتظرنه بالسعادة الابدية، فيطيعها وجلا، بلا اعتراض، نادما على تمرده ليكتشف فى الصباح أنها حولت بحارته الى خنازير، وعرتهم من ثيابهم وشبابهم وشوتهم على السفود.. وملات سفينته بالجرذان والعقارات بعد أن كبلت الرياح الأربع، لكنه ظل يصرخ، تعذبه لهفته وشوقه الى النجاة بجلده، فلم يحضر على صراخه إلا الحراس الحليقى الرأس ذوى الرقاب الوحيد تحت شجرة التوت الحبشية ذات الثمار الدموية.. فلحقوا به وضربوه ضربا مبرحا فى البيت ثم جلدوه فى المدرسة حتى بعد أن تاكدوا من موته تماما.
وخزه الجلد القديم المحترق فوق ظهره وأكتافه فتوتر. ورغم أنه لم يعد يحس الم عصى الخيزران الرفيعة، أو السياط السودانية المعقودة فى الزيت لكنه ارتجف وتكور حول نفسه وتساءل عن سر رعبه، وكل شئ قد أصبح على ما يرام الآن كما يقسم رفاقه. وأحس بخجل شديد منهم، أن يسمع أحدهم صراخه أو يرى ضعفه، فيظن به الظنون أو يتهمه بمحاولة خداعهم. وساعتها لن تغفر له كل هذه السنوات الطويلة من الحزن والالم، ولن تشفع له تلك المسافات التى قطعها فى سفر لا نهاية له عبر المكان الواحد والزمان الذى لا يتكرر فآثر الصمت..
وحل مع صمته الصمت على العالم..
حل فجأة مثلما مات هو فجأة تحت الاقدام، ولم يعد يسمع من مكمنه سوى صوت طحن ضلوع بشرية وانسحاق عظام أثرية، ونشيش شواء لحم حى. وصرير أبواب عتيقة، يفضى الواحد منها للاخر ليفسح المدى لرنين سلاسل ذى صدى عميق الابعاد يبتعد فى رتابة حزينة..
الصباح الذى حل قبل بدء الرحلة
يوم جاءوا به الى هذه المدينة العجيبة ذات الاسوار العالية. بكى والده الفلاح العجوز – الذى لم يغادر قريته أبدا – وسالت دموعه وهو يتأوه بحرقة أمام البوابة الرئيسية لحظة شاهده عاريا كما ولدته أمه يعبر الطرقة بلا خجل، خلال الباب الضيق الى صالة الاستقبال. حيث كان طابور من العساكر الاميين يقف فى استقباله رافعا العصى الخرساء على كتفه. وجفف الوالد دموعه فى الملابس التى كانوا يلقون بها إليه قطعة وراء قطعة بعد أن ينتزعونها بقسوة من فوق جسد طفله تحت وابل العصى والشتائم. ووجد بقية من قدرة ليغمره بنصائحه دون أن يدرك فوات الأوان:
كان ما لنا ولهذا، أن أحدا منهم لم يعرف طريقه الينا أبدا. نحن قوم فقراء يا ولدى وضعاف، عملنا هو أن نزرع برسيم البغل الذى يعبده أسيادنا، نحن الكوبرى الازلى الذى يعبر فوقه الملوك والغزاة وتمر فوقه العصور – الكوبى يا بنى لا يتمرد على الاقدام التى تعبره – والنيل: لا يسأل عمن يشرب منه ولا عمن يتبرز فيه.
أرهقتنى كثيرا وظلمت اخوتك البنات، من سيتقدمن اليهن بعد اليوم وهم يلقون بملابسك هكذا فى وجهى دون اعتبار لما دفعته فيها؟. أنا الذى كنت أظن أنها ستزيدك قيمة واعتبارا، لقد عرقت وتعبت فى حقول الناس، وسدت بذور قمحهم وكتانهم لحمى وسقيتهم ماء أيامى ودموع عينى، وكان أملى أن أكسو جسدك وأسترك، وها أنت تتركهم يلقون بها فى وجهى لا مبالاة.. يا للجحود! مليون سنة كاملة مضت لم نفعل ما يغضب يالعبد أو الرب لتأتى أنت على آخر الزان فتبيح لهم ساحتنا، قلت لك كثيرا لا تفرح أكثر من اللازم، نحن لا فرح لنا.. قلت لك كثيرا لا تحلم أكثر من أكثر من المعقول فأحلامنا مشانقنا. قلت لك ابتعد عنهم فهم طينة أخرى، لكنك آثرت الاقتراب منهم.. لتتنافسهم أتظن أنك ند لهم؟ أنت مغفل، وأنا الذى حسبت العلم والتعليم سيهذب من طباعك وأخلاقك ويحميك لى!. آه-
يا ليتنى كنت قد ربيت بهيمة! كانت ستعطين وتريحنى لماذا يا رب رزقتنى بمن يأتى ليفسد فى آخر عمرى سجل حسناتنا، الوالى أطيب خلق الله. لكنك جاحد هكذا كنتم منذ آدم والى الابد، هو يفعل كل ما يستطيع لخيرنا وأنت تسير عاريا بين الحرس لتفاخر بدناءة أصلك، يا ولدى أطعنى، افعل ما يريدونه لأنه لا يجب أن تفعل ما لا يريدون. هكذا الحياة ولقد وعدونى، نعم وعدوا أن يعيدا اليك كل شئ، ولى. وعدنى حضرة الضابط.. أنه ابن أصول وقادر على أن يفى بوعده.. بالتأكيد سيفى بوعده..!
ملا وجه أبيه المذعور الفراغ المحيط به لحظة اصطدمت به كف رئيس النوبة فى قسوة وعنف. تطير خياله شظايا قبل أن يغيب الوجه المرهق العجوز عنه نهائيا خلف الباب الثقيل العتيق ذى الصرير الشيطانى، والذى أغلق فى عنف وقسوة، ليحول دون اتصال النظرة الهلعى بين الطفل والعجوز. لكنه استطاع أن يراه رغم القناع الاسود السميك الذى أدخل رأسه فيه ورغم الخشب الاثرى السميك، رآه يعصر ومة القطن والصوف التى تنضح برائحة العرق المألوفن والتى تبقت له من (ضناه) فى رعب وذهول، وسمعه ينشج فى ذل ويدق بقوة سنوات عمره الطويلة المليئة بالشقاء محتجا فوق الباب الاخرس، ثم متوسلا كمتسول ليسمحوا له بوداع وحيده أن كان لابد من اعدامه، لكن القبضة الواهنة التى امتصت منها الحقول البخيلة ما الحياة، عبر سنوات طويلة وحقب أزلية، لم تستطع أن تصل بصوت طرقاتها الى أذن كبير الحرس الجالس فى صدر الديوان السلطانى، فكف عن المحاولة واستدار فى فتور ويأس مبتعدا عن سور المدينة الاخرس حتى وصل الى الشارع الرئيسى المرصوف واستطاع أن يدس نفسه داخل عربة مزدحمة وهو متشبث بما تبقى له من ولده، وبعد أن نجح فى العثور على مكان لقدميه وسط الزحام، سمعه بعضهم يهمس معتذرا لمن يقف الى جواره – وكان فحلا عريض المنكبين تبدو عليه النعمة – خشية أن يكون قد ضايقه قائلا فى صوت واهن مؤملا أن يشاركه أحزانه:
- على الأقل هو فى أمان هناك – صدقنى هو فى أمان.
لم يبال الفحل به ولكن ركابا بسطاء من صيادى السمك والسمكرية حدثوه كثيرا عن تلك المدن وعن ضربات الحظ المؤكدة التى تهب الراحلين إليها السعادة والغنى وطول العمر.
حدثته امرأة سمينة سمراء عن أوراق مجهولة بها طلاسم ورموز، من استطاع فكها دلته الريح الى طريق مدينة النحاس ذات الشوارع المرصوفة بالبلور الصافى والعذارى المغنيات والحمام الاخضر الذى يصلى طول اليوم على النبى.
وأكد له شاب مقطوع أصابع اليد اليمنى حقيقة السينات الثلاثة والاختيار الصعب الذى يكلف البعض حياتهم أو جزءا من أطرافهم، ويكلف البعض الآخر رجولتهم وقدرتهم على الانجاب.
وحكى له عجوز أكثر منه خبرة، عن رؤوس الفرسان المقطوعة من جدر الرقبة والتى تعلق فى يوم السوق على الاسوار، لتظل فى مكانها حتى يأتى الفارس الأخير ليكمل الاربعين عدا، فتبدأ الطقوس مرة أخرى، استعدادا لبداية العام القادم فتتم الدورة من جديد.
تذكر العجوز أيام كان ابنه يقرأ له عن تلك المدن فى كتب الايام والتاريخ فاستوثق وآمن واعتصم بحبل الله، لكنه لم يطمئن تماما، إذ أنه تذكر عندما تركوه وحده بجوار السور الاصم الذى (لا طاقة له ولا علاقة) فأخذ يبحث الصخرية، لكن كفه لم تلمس بسبب الظلام أسفل الجدار، سوى بقايا حيوانات ميتة وبشر محتضرون ونفايات عضوية ونفايات عضوية نتنة، فأخذ يغرى جاره الآخر المنسحق بين الاجساد الملتهبة بالعرق والضيق – مسريا عنه قائلا:
صدقنى هو فى أمان أكثر هناك، فأنا عندما أخذته اليهم مختارا رأيت فى عيونه نظرة عرفان، نعم أنا متأكد أنها نظرة عرفان عميقة. لقد كان متعبا ممزق الجسد محترق الجلد فى أكثر من مكان بسبب بقايا السجائر وكان دامى الوجه ولكنه كان من أعماقه يشكرنى فلم يكن ممكنا أن تستطيع أقدامه حمله أبعد من ذلك.. وكيف يهرب وقد تخلى عنه أصدقاؤه وكانت هى تخونه علانية وهى تقسم أنها تحبه، ألا تصدق؟ وأكثر من ذلك لقد وعدونى بالمحافظة عليه واعادته عندما يرضون عنه.. أقسم لكم جميعا أن رئيس الحرس التركى ضحك فى وجهى وربت على كتفى ووعدنى أن يعتبره فى مهمة رسمية بلا بدل سفر بسبب نفاذ البند، وعندما شكرته نهرنى بينما ابتسم ولدى يشكرنى وهم يجرونه بعيدا، التفت نحوى يغمرنى بعرفانه ثم ذهب صامتا معهم، ذهب بكامل ارادته، وتركنى وحدى مرهقا متعبا باكيا بسبب أفعاله، يا لنكران الجميل.. فعلت كل ما فعلت من أجل مستقبله ثم يتركنى ويذهب معهم أيرضيكم هذا؟.
لكن الصمت فقط هو الذ واجهه. وتشاغل أكثر الركاب بعد أعمدة النور والاشجار. وابتعد الفحل مشمئزا، بينما مصمصت العجوزة شفتيها، وتنهد العجوز الأكثر خبرة فاسترسل مخاطبا تنهيدته المتعاطفة:
- نحن العواجيز عجزة بما فيه الكفاية.. ويجب أن نتذرع بالصبر ونستغفر الله لخطايانا القديمة.. فمن يستطيع أن يفهم حكمته فى ذلك؟. ومن منا بعد كل هذه السنين يستطيع أن يفهم حكمته فى ذلك؟. ومن منا بعد كل هذه السنين يستطيع أن يفهم أسرار تلك المدن التى لا تفتح أبوابها إلا بقوة الكلمات التى يعرفها ابنى بالتأكيد؟ هو متعلم بما فيه الكفاية صحيح أنه لم يرد على عندما ناديته ليفتح لى ولكن ماذا كان بيده أن يفعل؟ وهم لم يعطوه فرصة كافية ليعلمنى تلك الأسرار!.
وتذكر العجوز وهو يصعد سلم البيت أن ابنه كان يهوى عد الدرجات صاعدا أو هابطا فأخذ يعدها اكراما لذكراه، وعندما وجده يجلس أعلى السم فى بنطلونه القصير مغضبا تفجرت فى قلبه ينابيع الذكريات القديمة وتزاحمت تسابق بعضها فوق لسانه عشرات الحكايات السعيدة التى سمعها أيام طفولته الأولى التى نسيها، ابتسم ابتسامة متسامحة وحاول مصالحته ولكن، ما أن فتحت له الأم الثكلى الباب ولمحت ملابس وحيدها قتيلة بين ذراعيه حتى غاضت الابتسامة تحت لهيب نظرتها المتحجرة.. وارتمى على صدرها منتحبا كطفل يرجو المغفرة لأنه بوغت مبللا ملابسه الجديدة صباح يوم العيد!.
المساء الذى حل بعد بدء الرحيل
أخذ الحارس ذو الملابس المزركشة يعبث بشاربه الكث متأملا القادم العارى بامعان ذى خبرة، متحفزا يبحث عن سبب للانقضاض عليه وسحقه بين أصابعه أن لزم الأمر، أو امتصاص دمه حيا حسب الأحوال.. وكلما اقترب القادم منه ازداد معرفة به فازداد عبوس وجهة، وحينما أصبح قاب قوسين أو أدنى ضحك فى وجهه ضحكة جوفاء صاخبة جعلت عظام الفتى النحيلة ترتجف تحت جلده رعبا، فأسرع يشبك ذراعيه فوق صدره مصليا يحتمى باله قديم كان يقدسه أجداده الأوائل.
وبعد أن فحص الحارس أوراق النزيل دون أن يقراها فتش شعره وثنايا جسده الابيض العارى فى شبق بهيمى، ثم قلب شفتيه فى احتقار، وأصدر صوتا قبيحا طويلا بفمه وأنفه معا، فأضحك ذلك جمع الاطفال الذى تجمع فى أرجاء المكان لرؤية القادم الجديد والاحتفاء به حسبما تقضى طقوس المدينة.
ونبهت ضحكات الاطفال مشاعر الوافد الجديد وأيقظت بقلبه حلما قديما حبيبا الى قلبه فدار بعينيه يائسا يبحث عنه بينهم – إذ كان يحلم طوال عمره بأطفال يضحكون من القلب – لكنه لم يتبين أية مشاعر سعيدة بقلبه، وانما اعتصره خوف رهيب، وضحكاتهم تكشف عن أسنان سودها الدخان الرخيص، وعيونهم تنزف سائلا لزجا كعيون مدمنى المخدرات.
أعاده أحدهم من وهمه عندا ألقى إليه بخرقة قديمة قذرة كى يستر بها عورته، وهو يلعن أمه وقلة حيائه.
وتقدم منه أحدب ماكر شديد الحيوية باسم الوجه يعرج عرجا خفيفا، وأشار إليه خفية أن يتبعه الى حيث ينبغى أن يقضى ليلته الأولى.
التفت الى الحارس مستئذنا لكنه كان مشغولا عنه بالتهام فخذة انسان آخر، فمضى والاحدب أمامه يقفز خطو بعد خطوة فى احترام وأدب حتى وصلا الى حجرة كئيبة فى آخر الطرقة المدبة السقف فدفعه فجأة الى داخلها بحركة سريعة ثم أغلق الباب عليه وهو يطلق ضحكات ساخرة مشروخة.
ولكن هذا لم يغضب الفتى، بل على العكس تماما، أحس براحة ساحرة عندما وجد نفسه وحيدا لأول مرة من زمن بعيد. وكان فى حاجة ماسة لبعض الراحة يذيب فيها ضوضاء يومه الرهيب، وأحس بدوار خفيف بعد اغلاق الباب إذ هدأ كل شئ فجأة وكأن العالم كله قد مات – فلا صوت ولا حركة – وجسد له الصمت الثقيل ثخانة وصلابة الجدران، وملاته الرطوبة والعفونة التى تنضح من مسام الصخر الجيرى احساس عميقا بالمسافات والازمنة، وكأنما هذه الحجرة الضيقة قد انفصلت عن العالم الملموس كفقاعة حجرية سقطت فى الفضاء اللانهائى.
وخمن حسب خبراته وصحة تقديره فى مرات سابقة أنهم لابد وأن يتركوه ليستريحوا من عناء اليوم الطويل معه، استعدادا لطقوس تعميده كمواطن للمدينة فى صباح الغد، وملا صدره فى محاولة يائسة لجمع شتات نفسه المبعثرة واستعادة وعيه الضائع بحقيقة الأحداث.
وسد رأسه مطمئنا فوق صدر فكرته، وأغمض عيونه المرهقة مستسلما داعيا إليه كل أحلام عمره الماضى كى تهرب به الى حيث تولد المواقيت والمسافات. لكن تقديره كان خاطئا تماما. إذ دار مفتاح صاخب مرعد على حين غرة فى طبلة الباب مخيبا أمله ذابحا الهدوء المؤقت، محطما هيكل الصمت من جذوره وانفتح البا على مصراعيه بعنف. وخلف سيل من الصرخات والسباب – اندفع يغرق الغرفة منطلقا من عشرات الشفاه الملتوية والافواه المهشمة – اقتحم عدد كبير من الحراس والاطفال المشوهين فراغ الحجرة الضيقة وأخذوا يدورون ويصخبون على الارض المربعة الصلدة وفوق الحوائط الرطبة المتعفنة مخترقين كل شئ، نافذين من كل شئ، حتى صدره ودماغه. جلس بعضهم فوق فراشه وتحته وتعاق آخرون بالسقف والزوايا، بينما جعل الاحدب من حبل المصباح ارجوحة مضى يتأرجح فوقها بين النافذة وشراعة الباب الضيقة، ماصا ابهامه القذر فى استمتاع بينما راح بعضهم يتمرغ فوق الارض المبلولة فى الوقت الذى كانت عين رئيس الحرس تراقبه وتتبعه طوال الوقت فلا تفارقه إلا لتنقض عليه متسللة عبر غابة الاذرع المتشابكة والاجساد والسيقان تلقى إليه بالتعليمات بلا صوت، أو محذرة اياه من العبث أو الاستهتار بقوة قائد السجن، أو الحديث مع الآخرين من النزلاء، أو تبادل الذكريات أو الطعام معهم أو تخزين أى فائض من الطعام الميرى، والامتناع تماما عن احراز الممنوعات تحت أية حجة كانت!.
تقدم أحدهم منه فانتزع شعره من جذوره، وحقنه أحدهم بحقنة كبيرة قذرة. وألقى إليه أحد الاطفال – وكان أعورا – بلقمة سوداء، ابتعلها دون مضغ. وألقى طفل آخر إليه بوعاء قديم قذر تفوح من رائحة سموم البولينا المتحللة ليقضى فيه حاجته فى أى وقت يشاء.
وعاد إليه الاحدب ضاحكا فاتحا ذراعيه مرحبا به، ثم همس إليه وهو يلصق فمه باذنه اليمنى أن يتبعه الى الركن البعيد وهناك قال له بصوت هامس تعمد أن يسمعه الجميع على السواء مشيرا الى الرئيس:
- لا بد له أن يدخن أثناء العمل وأثناء الراحة والا كدرنا جميعا، ولطم أهلنا فى الزيارة.. معذور! فإن مرتبه ضئيل جدا، بينما هو يعول أمه المشلولة وجدته الخرساء وخمس عيال يأكلون الزلط وزوجة، وهو لو صرف قرشا واحدا من مرتبه على السجائر ستزنى أم عياله من أجل خبز الاطفال، أو تهجره لتتزوج مملوكا أكبر رتبة والبلد مليئة بالعزاب والاغراب الكافرين. أنت أدرى بالاحوال والا لما سجنوك! الست تدافع عن الطبقات الشعبية؟ أنه من عز الطبقات الفقيرة!.
نظر الى الاحدب نظرة عاجزة مؤكدا له أنه لا يقبل أن يحدث للشاويش هذا.. أنه يرفض أن تضطر أى امرأة – وليست زوجة الشاويش فقط – الى بيع نفسها بسبب الحاجة، أنه يمكن أن ينتحر لو حدث ذلك بسببه.
ضحك الاحدب وصاح بصوت أعلى:
- لا تكن طيبا الى هذا الحد يا (كويرك) أن امرأته تزنى الآن من أجل المزاج، فلا تهتم هكذا. امسح دموعك، ليس هناك فرق كبير ما دمت (ستطلع بالسجائر)..
ازدادت نظرته عجزا وانتابه الخجل. وعصر الاحساس بالذنب قلبه وهو يؤكد للاحدب أنه جاء اليهم عاريا لا يملك شيئا، سوى تهمة باطلة فقد كل شئ بسببها أمام الباب، حتى نظرة عطف من والده. وقد رآه الجميع وهو يدخل خاوى الوفاض، وكلهم فتشوه، حتى الحارس نفسه فتشه بدقة بالغة أمام الجميع، فكيف سيقع الذنب عليه لو ادعت زوج الحارس أنه السبب حين تنوى أن تزنى بسبب الحاجة وليس بسبب المزاج.. وأكثر من ذلك أنه لا يفهم كيف تغير سجائره أن وجدت مجرى التاريخ – بينما هو ينتظر حكم الاعدام!.
ضحك الاحدب مرة أخرى دون أن يفهم شيئا. وظل مادا يده متوقعا أن يلقى فيها (المعلوم) دون أن يبدى أى اشارة الى أن سيصدقه. وبعد فترة أنزل ذراعه يائسا ونظر إليه نظرة تأنيب ثم أومأ إليه أن يتبعه الى ركن بعيد آخر، وهناك بجوار الحائط الرطب، قرفص، وأخذ يعصر نفسه بشدة حتى برز شئ يشبه الكيس الطويل من استه، فمد يده بعد أن تأكد من خروج معظمه باحناء رأسه جيدا تحت نفسه، وسحبه بحرص وهو يبتسم، كان كيسا حقيقيا من المطاط منتفخا ومشدودا يلفه خيط أسود قذر، نفضه الاعور فى محاولة لتنظيفه مما علق به من براز ودم وأخذ يفك خيوطه. وبعد ذلك فرد محتوياته امامه على الارض واختار شيئا ملفوفا، مد به يده اليه، فتراجع الى الخلف مشمئزا وقد هاجمته رغبة عنيفة التقيؤ.
وأغضب رد فعله – هذا – الاعور غضبا شديدا فصرخ مثل كلب حاصره المصلون فى (زاوية). وتأوه متـألما باكيا يستنجد برفاقه وبالحارس، الذى أسرع يسد الركن بجسده الضخم محاصرا (اياه) فى الزاوية وقد اشتد انفعاله، واشتعل حماسه الشبقى، وبرقت عيناه وسال اللعاب من طرف فمه المكشر، مثل كلب مسعور مستنفز. وانهال عليه حتى كومه أسفل الجدار.
ثم جذبه بعنف الى وسط الحلبة فأنطلقت الجوقة تدور حوله فى خطوات منتظمة بطيئة وهو يرددون أناشيد وثنية غامضة جعلت العجائز عند طرف المدرجات البعيدة يمسحن دموعهن تأثرا ويرسمن علامة الصليب بينما علت هتافات المزدحمين فى الجانب الآخر المقابل للمقصورة الامبراطورية يطالبون بالقضاء على الضحية على الفور ارضاء للالهة المتعطشة للهدوء النفسى ولما سكتت حركته تماما أشار الامبراطور.
أمر الحارس الاعور والاحدب أن يفتشاه جيدا بحثا عن (المنشورات) التى لابد أن يكون قد أخفاها فى مكان ما، مثلما نجح فى اخفاء كل أثر للسجائر، ولما فشلوا فى العثور على شئ استداروا وخرج الحارس غاضبا حانقا فتتبعه الجميع مطأطئى الرؤوس خجلا من الفشل.
وعاد الصمت أكثر كثافة حين انصفق الباب.. وبسبب آلامه الحارقة وعجزه انتابه شعور حاد بالوحدة والمرارة وفقدان النصير. ووجد الراحة فى البكاء بحرقة، وفى التفكير فى زوجة الحارس – تلك التى سوف تصبح مومسا بسبب سجائره!.
ومر الوقت بطيئا ثقيل الخطى، لكنه استطاع أن يلعق دموعه وجراحه محاولا التعود على آلامها وهو يجر هيكله الى أسفل النافذة، ساعتها اكتشف أن وجه نجمته يطل عليه لاول مرة من بين القضبان فابتسم فى وهن ولكن الفرح غسل قلبه لما تبين أن نظرتها الرقيقة الحانية لا تحمل أى معنى من معانى الاحتقار!.
اليوم الى جرت فيه الواقعة
صعدت إليه فى خطوات مترددة وسط دخان عربة التراحيل القديمة وابتسمت له على غير العادة ابتسامة رقيقة تشبه زهرة تفاح وليدة. للوهلة الأولى تعرفت عليه، غريب هو، وملفتة للنظر حقيبته السوداء والنظرة العطوفة التى تطل من عينيه العميقتين. استجابت لدعوته بالجلوس، وجد نفسه يحدثها عن رحلته واخوته..
للوهلة الأولى تعرفت عليه، ففى زمان قدم زارها وفى الحلم أكثر من مرة عانقته وشكت له مصائبها المنزلية، وأنجبت منه أطفالا وسلالة!. وتحدثت إليه من الشرفة ولامسته خلف الابواب، ورسمت ظل شاربه فوق هوامش الكتب المدرسية وقبلته خلسة فى أمسيات الصيف القمرية وهى وحيدة تحلم بعناق السماء وتنتظر كلمة الرب المخلص.
دعته الى الجلوس بجوارها على المقعد الجلدى وبعد تمنع غير جاد أعطته يدها أمام الركاب جميعا ومسحت فى حنان دمعة قديمة نزفتها عيونه المرهقة وهو يحكى لها عن جرح قديم.
وفى مساء اليوم الذى قابلته فيه لأول مرة حملته كالمريمات الى بيتها وتعمدت أن يشاهد كل الناس فرحتها الأولى.. وحين تزاحمت حوله السترات الصفراء والسوداء، ابتسمت له مشجعة ومضت أمام الموكب تبشر بقيامه وصعوده وتهتف له!
أجلسته فوق سرير عشيقها القديم وأشعلت له غليون والدها وغسلت قدميه بزيت الورد، وأحضرت له سمكا وزيتونا وأطعمة بيدها. نسى معها معالم أرضه القديمة، وانمحت ملامح قريته وأيام طفولته واختلطت فى قاع ذاكرته المرهقة كل أسماء بنات الخالة، وبنات العم والاخوة ونداءات الاطفال فى ساحة (سيدى مجاهد).
صعدت أمامه صخور الشواطئ المسننة وجذوع الاشجار الهرمة ذات الاشواك، وسلالم أبراج المعابد الحجرية، وعندما أجلسته تحت صورة العذراء، وغنت له وحده، ماتت الى الابد – أو هكذا خيل إليه – صيحات العربات الوحشية فى كل مدن العالم. وكف الاطفال الجوعى فى عمق القارات الخمس عن الصراخ. وسقط عرض الشاه والامبراطور والخصى ولم تعد أذنيه ترتجف رعبا أو تسحقها أقدام العسكر المهرولة نحوه من أعماق الليل.
حدثته كثيرا عن اخوتها الاربعة الذين يحلمون بالهجرة ولا يكفون عن السع اليها، وعن امها النزقة ووالدها المتسلط المريض بالسكر وبالضغط. وحينما اكتشفت أنه يعرفها ويعرفهم منذ أيام الميلاد، أهدته زهور فل من حديقتها السرية، وغمرت وجهها سحابة رضا وأمل وحلمت بالثوب الابيض والصلوات المختلطة بصوت الارغن وزغاريد النسوة!.
قالت تهذى:
بالتأكيد سوف يغفرون لنا، أليس كذلك؟..
فأجاب كرجع الصدى بين جدران رطبة قاتمة:
- إذا كان هناك ما هو مؤكد فانهم سيذبحوننا بدافع الشفقة عند أول مفترق للطرق.
وعندما تصلب جسدها وبرد حتى الموت، انحنى عليها ورسم علامة الصليب وغنى لها أغنية تدشين البيت فى المزمور الثلاثين – "أعظمك يا رب لانك نشلتنى ولم تشمت بى أعدائى. يا رب الهى استغثت بك فستغيثنى. يا رب أصعدت من الهاوية نفسى، أحييتنى من بين الهابطين فى الجب". وسقط على وجهه منتحبا يصلى لالههم لكنهم أنكروه وعلقوا دمها برقبته، ومضوا وتركوه ملقى بعرض الطريق وليس الى جواره سواها رقيقة وذابلة كزهرة تفاح ميتة، تحاول بكل ما بقى لديها من قوة أن تبعد عنه العجلات المسرعة وسنابك خيل العثمانيين اللا مبالية، والجرائد القديمة.
من جميع الجهات زحفت نحوه ملايين الحشرات المفترسة.
فى البداية شرعت رؤوسها الدقيقة البشعة، وأدارت قرون استشعارها المسننة فى الهوا تتسمع وتتشمم حتى اطمأنت، ولما حاصرت جسده العارى المقيد بالحبال أقدام الحرس ذوى الرؤوس المحلوقة، أخذت تنهش لحمه وتمتص دماءه قطرة بعد قطرة وتفتش خلايا مخه واحدة بعد أخرى باحثة عن أسماء رجال وصبايا مجهولات دون جدوى!.
حاول أن ينهض ولكن أعضاءه رفضت أن تتحرك وخذلته، فقد كانت يد الحارس ثقيلة الى درجة هشمت أطرافه حتى العظام، أطل عليه وسط ضباب أبيض ثقيل وجه كالح يشبه وجه ثعلب مألوف، أخذ يشق لانفه طريقا بين الاجساد العارية، ثم أخذ يقترب من وجهه مترنحا فوق كتفين نحيلتين حتى لفحته أنفاسه الكريقة. وقال فى صوت أنثوى الغنجة والمخارج:
- ماذا تظن أنك تكتب، لست سوى فأر، وسنلقى بك مع الآخرين طعاما للقطط الجبلية. التاريخ وهم تعيشون فيه. فهو ليس إلا عجوز ذو لحية بيضاء اخترعه الحكام ليحدث الاطفال عندما نريد لهم أن يذكروا شيئا بالذات. وفى يوم قادم بالتأكيد لن تتعرفوا حتى على صورته تلك،!. لن يكون لديكم ما تفخرون به سوى رؤوسكم المعلقة – على جدران مكاتب الدولة الكبرى – تشهد لنا ببراعة الصيد وغباء الفريسة، كن عاقلا وفكر، ألست من أنصار الواقعية؟.. أهلك فى حاجة اليك. موهوب أنت والناس ستغفر لك، وقد تصبح شيئا، والا فاننا سنبعث بك لتموت معهم هناك وسط الصحراء أو قد تضيع أوراقك فى الطريق.. وكثيرا ما فقدت أوراق وأوراق منذ عرف المصريون المقابر!..
وكم ابتلعت كثبان الرمل المتحرك أمما وقبائل..
كل السفن ستغرق..
الشطآن بعيدة..
وربابنة الاحلام بمصر..
ناموا فى الظل الرطب وبشموا من عطف السلطان!..
التصقت به فاحتواها مستنجدا بطراوة أنفاسها أن تنقذه من حر الصحراء، أخذت ترجوه فى رعب وحنان أن يتكلم، وأن يعلن على رؤوسهم أنه لن يتخلى عنها مهما حدث وأن اضطر فسيهرب معها أو يأخذها عصبا أن لزم الأمر.
انغرست فى جانبه أسنان الصخر الحادة، فمضى يحدثها عن المدن المعدنية وعن بحيرات الزئبق حيث تعيش أسماك الفضة وتموت صغيرة. وكيف يجوع الاطفال وتنتفخ بطونهم بسبب الطاعون. وكيف تفتح رسميا فى احتفالات مقدسة سجون جديدة كل يوم ويشنق طلبة لانهم يقرأون أشعارا غير مقررة.. بينما توزع فى نفس الوقت جوائز الدولة على الشعراء فى احتفالات مهيبة. حدثها عن طرق الصدق الصعبة، وعن الموت فجأة فى بلاد غريبة. حدثها عن دروب خفية تختنق فيها العصافير الوليدة بغازات الافران ورائحة الاجساد المشوية ولا يكف المجانين والحالمين عن اختراقها بالرغم من ذلك بالآلاف كل يوم!..
قالت له: عدنى فقط حين يجئ الوقت!..
ذابت فيه وتلاشت. فأخذ يقص عليها أحداث رحلته الأولى فى أحراش الناس ولقائه بالوحش العملاق ذى العين الواحدة وفشله فى أن يفى بوعده ليتزوج البنت ذات الضفيرة الرطبة والوالد المجنون، وفسر لها لماذا كان والده لا يضحك كثيرا. وشبك فوق جبينها ريشة الرخ الذى ربط نفسه الى ساقه لكى يعبر بحر الظلمات، ووضع فوق رأسها فى حب تاج ملكة الحيات، وأطعمها حبة كرز سالت فوق الشفتين عصارتها الحلوة.
ساعتها ضحكت وكفت عن الالحاح وأخذت تسأله فى نزق أن يحكى لها عن الحراس ذى الشوارب المنفوشة. وعن الاطفال المصبوغة أسنانهم بالدخان وعن خبز الرحمة المغموس فى الزيت المسموم وعن (اليمك) الساخن وأرغفة الخبز الحجرية، وعن الشاويش التركى رأس الفجلة، كانت تضحك…
لكن الكلمات تحجرت فوق شفتيه وماتت. ورآها امرأة أخرى ترقد الى جواره مصغية لكل أحاديث الدنيا دون أن تفهم شيئا، فتهدم أمله فى استعادة الماضى الضائع ووجد روحه تتلاشى بين أصابعه كقطعة ثلج. فأكل لسانه!.
أسرعت تهمس معتذرة محاولة استعادة صورتها الأولى..
- لكنك رغم كل ذلك نجوت وعدت الينا منتصرا كانت محنة تجاوزها الجميع.. أذهله غباؤها المفاجئ، لماذا يظن الجميع أنهم منتصرون لمجرد مرور الايام وتحول الالم الى ذكريات؟! أهى خدعة لكى ننتظر الموت فى هدوء ولكى نتفلسف ونتشاجر ولا نعرف طعم الحب؟! استدار غاضبا وأعطاها ظهره وغرس عيونه فى الحائط الحجرى القديم الذى ينزف دما. وراح يتأمل آثار ملايين الاظافر البشرية التى حفرت معاناتها فوق طلائه الكالح، ويستنشق عبير الانفاس والآهات التى اختلطت بحجارته الباردة الرطبة عبر سنوات طويلة من الدموع والاشعار…
- لم أرجع بعد..
ويبدو أنى لن أرجع أبدا..
محصور قاربى المكسور الدفة ومحاصر،
داخل ثوبى يرقد رجل آخر..
داخل كفنى يتحرك رجل آخر..
والاحدب خلف الباب يراقبنى..
يلصق آذنيه ليسمع عما نتحدث..
الاعور يرصد خطواتى..
وسينبئهم أنك جئت الى الليلة..
وغدا سيكون عقابى أكثر قسوة..
فهنا لا يسمح بزيارة أحد منا..
ستشق دماغى أسئلة الحرس التركى..
القاضى سيجرمنى..
والرهبان سيهدر أكبرهم عمرى..
وأمى لو علمت لن تشرب من كفيك الماء..
وستخترق ضلوعى أحذية الجند الفظة..
لن أنجو حتى بين يديك.
لن أنجو رغم شفاعتك الـ……
- لا ترفع صوتك.. لا تصرخ يا ابن الكلب!..
انطفأ الوهج المرتعش وجف الزيت!..
خرست كلمات الكتب المصفوفة فوق جميع الارفف فى كل مكتبات العالم، وتوارت كل نجوم الليل ورحلت فجأة!
وارتفع صراخ الاطفال الجوعى يطارده ويسد عليه جميع المنافذ. وأخذت أصابعه تتسلل نحو عنقها العاجى المستسلم فى رقة ثعبانية، وانشق الليل عن صراخ العربة المجنونة مرة أخرى. وسحقت الاقدام الغجرية صدر الليل واندفعت صاعدة إليه السلم الحديدى فى غضب، تحاصره، وتنتزع ثيابه وتدفعه دفعا الى الصراخ رعبا وهو يهوى فى جب الحكايات القديمة – حيث الشياطين تقطع الوقت بمضغ عظام الانبياء.
اليوم الذى عاد فيه سرا إلى القرية
حتى فى تلك المدن المجهولة تشرق كل صباح شمس وتغرد أحيانا عصفورة. فالإنسان فى رحلة بحث الجوعى عن لقمة، زرع الأشجار بجوار الأفران وبؤر التأديب وبينما الأمهات يغنين للأطفال الجوعى المنتفخى البطون على أبواب القبر يظل الفقراء الموتى يحملون طوال العمر بالجنة – وحتى المقضى عليه بالإعداد ينتظر حتى اللحظة الأخيرة موعدا ينفجر فيه العالم فجأة، أو ترفض فيه الأشجار أن تتحول إلى مشانق!!
وحين استيقظ كان العالم يومها مازال نظيفا مغسولا وكانت الأشجار حليقة وآثار المطر والصمت تؤكد له أن الجميع نيام والشر الكامن لم يستيقظ بعد!
صعد الحائط وتكور فى رحم النافذة الحجرية، واحتضن بعمق عيونه الولهانة حقول البرسيم الطرية العارية، التى كانت تمتد حتى الأفق، خضراء تستحم بالندى كامرأة عاقر، دافئة النهدين تتصاعد من جسدها أبخرة الرغبة تدعوه ليذوب فى دفء الطين البكر برودة كفية المتشنجتين على صدأ القضبان. وخلال الدخان المائى المتصاعد من رئة الأرض كانت أكواخ الطين المتلاصقة المذعورة كصبايا حاصرهن عسكر جند السلطان تستيقظ هى الأخرى فى هدوء مشبع بالتوجس الريبة والخوف من المجهول.
حين عبر حواريها الضيقة المتلوية شاهد مولد نهار آخر يأتى إلى الدنيا على غير رغبة مؤكدة، وشاهد ملامح شمس أخرى تشرق خجلانه وجلة. ورأى رجالا معروقى الأكف، ممصوصى الوجنات، يعرفهم فردا فردا يغادرون بيوتهم متعبين رغم النوم الطويل يلقون على النهار نظرات غير مرحبة وغير مبالية – منذ مليون من السنين وهو يشاهدهم يستيقظون ويخرجون فى كل صباح، من نفس الأبواب الخشبية المنخفضة، إلى حيث تذيب نفس الشمس عروقهم المجدبة ذاتها فى رحم الأرض فتنبت نفس الأعناب الذهبي ونفس الحشائش.
كان يحبهم دائما من كل قلبه وكانوا يحبونه، وطوال عمره كان يعشق بكل كيانه الاندماج معهم والاقتراب منهم والتفانى فى مجاملتهم، لم يكن ينفر من رائحة عرقهم على العكس كان يجد نفسه حين يستنشق عطر اللبن المتخثر والمش القديم عالقة بملابسهم حين يجالسهم فى زوايا الزرائب الدافئة المظلمة إلا من ذبالة صغيرة تقاوم ريح الشتاء البارد. عندما كانوا يجلسون والقلق يملأ قلوبهم فى انتظار العجول الوليدة أو عندما يرهق نفسه فى تعليم صغارهم الحروف الجديدة أو يحل معهم مسائل الحساب المعقدة أو عندما يمسح فى حنان صادق أنوف أطفالهم، أو يذوب فى كفوف عجائزهم أيام صباه فى محاولة أسطورية للحاق بخيول خيالهم الجامحة أو وهو يستمتع حتى أعمق الأعماق باللهو البرئ مع شبابهم فى دكاكين القصب الشتوية وأمام مداخل البيوت.
أمام نفس الأبواب التى يعرفها جيداً توقف يبحث عن شىء مألوف وغامض وبدأ مضيعا لا ملامح له ولا هدف، فبالرغم من أنه أبدا فى مشورة الأشرار لم يسلك. وفى طريق الخطأة لم يمض، ولم يتآمر.. وفى طريق الخونة لم يفكر. واضنى جسده الفراق الطويل واحتمل وكان حصاد رحلته الأولى قبض الريح، وبضع حكايات ودراهم قليلة وأغنيات فقيرة لا تلفت انتباه أحد. لأنه لم تعد للكتب أو للقصائد أية قيمة واقفرت ساحات الشعر القديمة. وعجز الراوى العجوز عن إكمال ملاحمه بعد أن تساقطت أسنانه بفعل الرطوبة وسوء التغذية. لقد رست سفينته على شاطئ مقفر ومدينة سكرى بنشوء الاستعباد.
حاول أن يجمع معارفه القدامى، كما كان يفعل فى الماضى كى يقرأ لهم حكايات السلف والسر القديمة، ولكنهم تفرجوا على حركاته وألاعيبه لحظتين ثم مضى كل منهم إلى شواغله وهمومه، وحينما هز (كلب السباعى) الأسود ذيله وتمسح به متعرفا على رائحة عرقه (سفخته) زوجة (السباعى) البيضاء حجرا، فانطلق يعوى ناحية الحقل محتميا بالظلام. فاستدار هو يائسا ومضى إلى الساحة القمرية فلم يتعرف عليه احد من الأطفال، فقد كانت سنوات غيبته كافية لكى تنتفخ الأرحام مرة بعد مرة وتفرخ أجيالا لا يذكرها. عند بيت (عيوشة) لم يسمع غناء، ولم يشاهد لعبا، ولكن ينبوع الشعر تفجر فى قلبه لحظة شاهد عند أول الطريق الصاعد إلى البحر القديم – صديقة غارقا حتى الصدر فى طين (المعجنة) فاقترب فاردا ذراعيه فى لهفة، محاولا تذكيره بنفسه. ولكن صديقه كان منشغلا فى عراك مع زوجته الهزيلة العجفاء التى كانت ترضع طفلا (نزازا) من ثديها المترهل المتدلى كورقة الصبار، وفوق رأسها لمبة غاز عارية تقابل الريح، وترسم على الأرض والحوائط ظلالا مرعبة مهولة. ولما لم يبد صديقه اهتماما، استدار ويمم شطر البيوت وقد تدلى ذراعاه مشلولان إلى جانبيه.
من أى الأبواب سيمضى
مغلقة كل الأبواب ومنتهكة.
فتحو قبر السلطان السابق وجدوا كنزا وجماجم فتيان وصبايا كفنها فى أثواب منقوشة
حفر الجلادون القبر أما السلطان اللاحق وجود جثة سلفه
مثقوب العينين ومنتزع الأطراف بلا أكفان
أمر السلطان الآتى أن يحرق جسد الراجل كالكفار
ودعا الدهماء وزعران السوق فنهبوا كل حواصله ومخازن قمحه ..
سبع ليال أكل الناس اللحم وسبعا ذاقوا طعم الخبز الساخن دخلوا المسجد صلوا للرحمن العاطى
قالوا.. رحم الله السلطان..
ودعوا أن يهب المنان لهم كل صباح سلطانا يرحل كل مساء ….
……… ماتت أخت السلطان الراحل حزنا وكمدا وكانت طاهرة الذيل وكانت مازالت عذراء.. يوم ذبح أخوها شقت صدرها وكشفت رأسها، وجرت فى الشوارع تصرخ، وهى تدعو الله الجبار:
هو ذا يمخض بالاثم يحمل تعبا، ويلد كذبا فى الهوة التى صنعها يسقط وعلى رأسه يهبط ظلمه.. ويكون الطوفان..
اضطرب الناس وذهلوا من هول الهول، كانوا يعتقدون أن لها عشيقا جنيا من اهل سقر وأنها تعرف أسرار السحر . ولكنهم خافوا أن تغدر بمن يواسيها فتركوها لتموت حزينة. وأمر السلطان فحفروا أرض خلوتها. فعثر الجند على ثلثمائة صندوق من ذهب خالص، وأوانى فخارية متخمة بزيوت عطرية سحرية تهب الأجساد البشرية ريا أبديا. وعثروا على دهون للشهوة تذهب عقل الحكماء فاعتلق العسكر أهل البيت. ولم يعرف أحد أين مضوا بالفتيات البكر أو الأولاد.
وجدوا طن دنانير فضية عند الماشطة. وجوالين من الذهب الإبريز عند الداية والبلانة. عصروا البواب فاعترف – ودل على مكان فى خمارة، فيه ألف ألف صندوق من عملات رومية.
هذا غير ما ما وجدوه من قماش وفرش وخيول وحمير وجوارى وعبيد وطواشية وشون مليئة بالغلال وأقبية زيت تفوق الحصر.
حملوا احقاق الدهن وأكياس الذهب إلى السلطان. وأغلقت الأبواب، ومنع السير وكمن العسكر والبصاصون فى المكامن الخفية، يترصدون ضعاف الخلق كمنور شرسة تخطف وتنهب وتجرى لتثير الرعب فينسحق المسكين ويتوارى القوى.
وانتظر الناس الخير ولكن شيئا لم يتغير السلطان احتفظ بكل الميراث لنفسه وأمر الجند بغزو الأسواق. وأطلق أيديهم فى أمر عوام الناس، فاعملوا فيهم السيف والنطع وانتشرت الخوازيق فيما بين الرملية وبين القصرين، واختفى الإله الرحيم ووقف بعيدا مثلما يفعل عادة فى أيام الضيق والكرب الكافر منذ الأزل…
لم يبق أمل فى أن يتعرف أحد منهم على صوته، أو أن يتذكر أحد سحنته المتورمة من أثر أعقاب السجائر واللكمات.
فى حذر الثعلب المطارد تقدم وألصق وجهه بالباب الخشبى القديم فى أول الحارة واستنشق حتى النخاع رائحة الحنوط والتوابل القديمة .. وخطى أول خطوة فى الدهليز الرطب الهادئ الذى كان يصخب يوما بضحكات بنات وأولاد ماعز وكلاب صغيرة. فوق الجدار كان ثمة صور ونقوش يعرفها تحيط بموضع المصباح المطفأ الذى مازال الزيت ينزف منه.
عند الباب الأول جلست المرأة الهائلة ذات الفخذين – التى تفوح منها رائحة الروث الدافئ والقشدة.
عند الباب الثانى التفت إليها مذعورا وهو يسمع فى الظلام نداءات مختلطة وأصوات عذاب حاول أن يتبين مصدرها فلم يتمكن.
على أكوام البرسيم الأخضر المفروشة فى الركن البعيد استلقى وأمسك بضرع البقرة المنتفخ. ارتعش الضرع فى كفيه وتوتر، ثم انساب منه اللبن الدافئ يروى عطش الشفتين الجائعتين. اقتربت منه المرأة ذات الفخذين الهائلين عارية وقالت فى حدة: يكفى هذا اليوم – ثم اردفت فى دلال -: أذهب لا تفضحنى لو استيقظ زوجى لن يرحمنى، يقدر أن يرسل بنا إلى العرقانة أو إلى جب القلعة – أذهب، ماذا سيلم بى لو أخبره أحد الأطفال، الاعور يلاحقنى والأعرج يكرهنى، يكفى هذا .. انت لم تقفس بعد من البيضة وتطالبنى بحقوق رجل!.
يعرف أنها تكذب، تفضحها نظرة عيونها التى تلاحقه، مازالت تشتهى أن يعاود الشرب .. لكن خيط اللبن انقطع فجأة.
وحين تركته ومضت مبتعدة تجر حمول اللحم الشهية خلفها لتغيب فى ظلام الأزمنة السحيقة تحت السلم الحجرى.. احس بخوف قاتل يعصر قلبه فخار كالعجل الرضيع وانطلق يبحث عنها ليسكت صراخ معدته التى لم تشبع بعد!
حين وصل إلى السفح كانت القمة غائمة وسط سحابات رمادية وبدأ مضحكا وهو يطلب النجدة صارخا، مثل فأر غارق فى النهر ذات يوم مطير. واخترق أذنيه صياح أطفال داهمة فجأة. من الشاطئين وحاصره التهليل والضحك. واعتصر ذاكرته عندما بدأ يلاحظهم كلهم حوله يرقصون ساخرين، ليمكن واثقا كل الثقة وتمنى أن يخيب ظنه مرة والى الأبد، لكنه شاهد الأسنان التى سودها الدخان وتبين انطفاء العيون التى تنزف فى ضوء الشمس وكلها تشير نحوه فى مرح ونشوة، كانوا أمامه مباشرة وخيل إليه أن بعضهم يتوعده، فأحس وخز صدأ الحديد وشعر بخدر شديد فى أطرافه بسبب جلسته المتعبة. ولسعته برودة القضبان حين لمسها خده الأيمن للحظة. فتأكد أنهم قد لحقوا به وقبل أن يفكر فى طريقة للنجاة، كانت الأيدى القوية قد نزلت كالصواعق فوق رقبته من خلف وانتزعته قسرا من بطن النافذة المضيئة وألقت به فوق الأرض الصلدة فأعشت العتمة المفاجئة عينيه، ولم يعد يتبين أو يحس شيئا – أى شىء.
الليلة التى بدأ بها الرحيل:
كالشجرة عند مجارى الماء كانت – خضراء وخصبة لا تذبل، لا تخلف وعدا، تعطى الثمر بكل أوان.
فى تلك الليلة جاءته كعادتها دون موعد، دائما كانت تشعر بحاجته إليها، ودائما كانت تأتى اليه حين يبدأ فى التفكير فيها، كانت توأم روحه وتميمة سعده أيام صاحبته فى رحلاته البحرية منذ فكر فى مغادرة القرية للبحث عن نقطة التقاء الأرض بالسماء. وأنقذت مراكبه القديمة المتهالكة أيثر من مرة وحمته من هول العواصف ودوامات الموج والحيرة.
وقادت الطريق أمام قوافله إلى ينابيع الماء والواحات الخضر عندما حاصرته الكثبان الرملية ورياح الهبوب.
وحمت ظهره يوم اشتبك مع التنين ذى الرؤوس الأربع، وقطعت أسلاك المعتقل سرا وهربت به تحت جناح الليل، وأعطته طعاما وشرابا وسيفا. ودلته إلى درب العودة إلى الفسطاط يوم كان الصليبيون يبحثون عنه للانتقام لفتاتهم المنتحرة.
لكنها جاءت بهم فى أثرها هذه المرة.
عصف الشك برأسه لم يبح بما يوغر صدره بل حاول جاهدا ألا يترك الفكرة العابرة الشريرة تفسد فرحته بلقائها، وحاول أن يخفيها عن عيونهم عندما اقتحموا الحجرة عبر الحوائط والنوافذ المغلقة. لكن جهوده ذهبت عبثا فقد ألهبته بجمالها الرقيق وعطرها الأسطورى ونظرة التساؤل الغامضة – التى كانت ترتعش فوق جبينها الناصع فجعلت الجميع يحاصرونها بالأسئلة والعصى.
تعاظم احساسه بالأحذية الحكومية منذ وحد مينا القطرين ووضع أسس الحساب، ومنذ أجهد قائد شرطة عبد الملك بن مروان نفسه ومساعديه فى إثبات الأحاديث الشريفة وقهر المتمردين. وخيل إليه أن كل الأقدام (النبيلة) والملكية تحاول أن تختبر قدرة أضلاع قبيلته على الاحتمال وهى تجهد نفسها فى ركل منتظم ومحسوب. وحينما جروه على الأرض الصلبة الباردة أخذ يفكر فى الجثة. واعطته لهفتهم فى تبادل الاعتداء عليها فرصة لإعادة التفكير، مركزاً كل ذاكرته على أطراف أصابعه وعروق رقبتها المستسلمة النابضة باللذة.. وحاول الاحتفاظ ولو بخيط واه يربطه بالعالم الحقيقى وهو يخمن أنهم يأخذونه إلى الشارع وحاول التأكد من ذلك وهو يعد عدد المرات التى ارتطم فيها رأسه بدرجات السلم، وعلى السلمة الأخيرة بدأ يتبين ما حوله خلال غمامة حطت على عيونه، اختلط فيها الأحمر بالأزرق.
لم يكن هناك شباك مفتوح فى أى مكان حسب أوامر صاحب الشرطة الجديد. امتد حظر التجول حتى موعد جنازة السلطان الجديد ولذلك أطاعت كل الجدران وظلت صماء صامتة ممتدة حتى السماء. وأطاع الناس أوامر الجند. ولزموا بيوتهم فخلت الدنيا من أهل البيت وسكان الحارة.
غمره فيضان من أمل كاذب، حين لمح دكان السجائر الصغير المجاور لباب البيت لا يزال مضاء. لكن الأرض الحجرية ابتلعت – مثل كثيب الرمل – آثار الدم والعرق التى نزفها من باب الشقة حتى الرصيف، عندما رأى الرجل العجوز الطيب يدير ظهره لموكبهم ويتظاهر بالانشغال فى ترتيب البضاعة. وذهب أحدهم ليتأكد من جدية انشغاله ورعبه. وعاد يبتسم راضيا. ليأمرهم أن يقذفوا به إلى جوف العربة. وما إن صعدوا خلفه، حتى انطلقت صامتة وابتلعها الظلام. وعادت الحياة تدب فى البيت وفى الحارة. وغمر النور الشارع وكف البائع عن ترتيب بضائعه، وفتحت شبابيك كثيرة، وبدأ طفلان لعب الكرة فى بحر الشارع.
- كان كاذبا مشاغبا وكان يعشق الصغار.
- ذهب وهو مدين لى بسبعة عشر قرشا، ولست أدرى ممن سوف أطلبها وأن وجدت من أطالبه فلن يدفع – كنت أبيع له دون فوائد.
- رجل الدماء والغش يكرهه الرب.
- اتعرف أنه كان يعاشر أخته فى الحرام؟ وهى التى وشت به. أنا رأيتها بنفسى. الشيطان نقش على زندها صليبا أسودا.
- يمهل ولا يهمل، هذا كله لأنه لم يدخل مسجدا فى حياته – كافر – منذ اليوم سيلعب أطفالنا فى أمان.
وحملت إليه الريح الغربية عقاب الحارة وإنكارها، فحمد الله أن أحدا منهم لم يسلمه مع ذلك. وحاول أن يدافع عن نفسه، ولكن الكلمات خانته وعجز عن فتح فمه تماما. فقد كان لسانه ملتصقا بسقف حلقه من شدة العطش. وكانت أنفاسه تجاهد للنفاذ بصعوبة خلال كتل الدم اللزجة التى سدت حلقة، وجفت حول فمه لكنه استطاع أن يهمس لنفسه بلا صوت:
ورغم ذلك فإننى أستطيع التفكير فيها.
وانشغل بمحاولة تحريك اصابعه المهروسة، حين خيل إليه أنه سمع صوتا هادئا عميقا يناصره من بعيد:
ما كان يجب أن بتالغوا إلى هذه الدرجة .. لو أنه مات فسوف تكون مسئولية جسيمة من يضمن ألا تطالب القبائل بثأره، الدنيا ستقوم لوا تقعد، فالتخلص من جثة حتى ولو كانت بريئة ام يحتاج لتدبر محكم. جثة أمثاله أعطى على الإفناء من جثة السلطان لانعدام الحجة فى عالم لا ينسى الجثث، ولكنه قادر على طى صفحات آلاف الأحياء .. عليكم أن تكونوا أكثر حرصا فى المرات القادمة.
فرح كصبى عثر على أمه. وفكر أن ينهض ليزود ذلك الذى يدافع عنه بالوثائق الكافية، وليثبت له حبه للشعر القديم وللحكايات الشعبية ورغبته فى أن يجد الجميع حتى أولئك الذين ضربوه بيوتا بسيطة، ومناشف نظيفة، ولعبا. وتمنى أن يذكر له أسمه وعنوانه وأن يطلب منه الذهاب إلى شقته، ليحضر له بعض الاشياء الضرورية، التى لابد سيحتاجها فى الأيام القادمة، لكن فشله فى تحريك رأسه ناحية الصوت جعله يعدل عن الفكرة، حتى ضاع الصوت الرحيم فى ضجيج الأقدام المعدنية ورنين أصوات الآلات الكاتبة فبكى كطفل فقد النصير.
لكنهم عندما حلقوا له شعره وصوروه، أعادوا إليه الطمأنينة فقد أكد له هذا أنه مسجل بعاليه فى دفتر ما ، وأن له منذ الآن رقما واوراقا رسمية، تثبت لمن سوف يأتون بعده انه كان موجودا فليسهناك مصرى يمكن أن يكذب الأوراق الرسمية.. وبدأ القلق يزايل. واحس أن ما يجب عليه هو أن يستريح من عناء يومه الثقيل فى حماية الأحرف والأرقام الحكومية.
والحقيقة أن الإرهاق كان قد بدأ يهاجمهم، فاعتذروا له بسبب إقلاق راحته حتى هذا الوقت المتأخر، ووعدوه باستئناف شغلهم معه فى الصباح ثم سمحوا له إن ينام وأجلوا كل شىء بحماس ومضوا إلى بيوتهم.
كان على احدهم أن يتذكر شراء قلم وممحاه لابنه الصغير. وابتاع الثانى وأكل فاكهة لحما مشويا قبل أن يجامع زوجته الحامل بمجرد ولوجه باب الشقة، بطريقة أثارت دهشتها وإعجابها فظلت طوال الوقت تحذره فى دلال من إيذاء الطفل ذى الشهر الرابع.
أما ثالثهم – ذلك الذى كان قد توجه إلى دكان السجائر فقد نام ملء جفونه فى أحضان زوجة زميل لهم كان موفداً فى مهمة مماثلة فى بلد بعيد.
أما رئيسهم فقد أعطى نفسه مثل كل ليلة لسائق سيارته النوبى فى قرف وهو يلعن كل الكتب والقصائد فى أركان الدنيا الأربع.
أما (هو) فقد ظل طوال الليل ينصت إلى تأوهات الزوجة الخائنة والزوجة الحامل وقائد الفحل النوبى المتمرس. لكنه لم يستطع أن يتبين شيئا فى الظلام الكثيف الممتد حوله إلى أبعاد لا نهائية، فمد يده محاولا التعرف على موقعه من المكان والظلام بتحسس الظلمة، ولكن ذلك كان مستحيلا فكف عن المحاولة. وقرر أن يقطع الوقت فى استعادة صوت الزوجة الحامل والزوجة الخائنة ورابعهم الذى ظن انه يدافع عنه والاكتفاء بذلك كخيط يربطه بالعالم، ولكن حتى ذلك فشل فيه، إذ آلمته جراحه وشق على ظهره الممزق تحمل قسوة الأسفلت الخشن. فأخذ يشغل نفسه باستعادة ما مر به من أحداث خلال يومه المنصرم وتخيل ما قد يحدث فى اليوم التالى، لكنه عجز عن تذكر حروف اسمه الأول فكف عن أى شىء، واستسلم لشعور مؤكد بالبراءة ولاحساس ممتع بانه مجرد جزء من كتلة الظلام والصمت التى تحتويه فى أحشائها.
استجمع كل ما كان مقدرا له من قوة فى محاولة أخيرة ليدفع بجسده إلى الخارج لكنه انتفض غاضبا عندما سمع الداية العجوز تصرخ فى جزع:
رأسه كبيرة وقد ينحشر.
أراد أن يحتج لكن سيلا جارفا من القاذورات والدم الفاسد حاصره وغمره واعماه وسد أمامه السبل فعجز عن النطق. وكاد أن يختنق. لكنه لم يستسلم وأعاد المحاولة بإصرار أكبر فقد كان يشعر أن ينبض الحياة يعيض من حوله شيئا فشيئا، وأن حرارة المقاومة والرغبة فى البقاء - وهى زاد الضعفاء والمرضى – قد اقتربت من درجة الصفر. ومثل فار قرر أن يغادر السفينة التى كتب عليه الغرق، حاول للمرة الأخيرة، عندما جاء صوت الداية وكأنها تصرخ به مشجعة وهى تجذبه إلى الخارج:
- هانت، ساعدينى يا (أم هاشم)، شى الله يا (سيدى مجاهد يا ابو عبد الوهاب) ابنك وطنيبك وحامل رأيتك.
ولم ترد الأم.. فقد كف كل عرق حى فى جسده عن النبض فى نفس اللحظة التى استطاع فيها الإفلات منزلقا كالسمكة الملساء بين ذراعى الداية الضامرين.
ويذكر – أن يومها لم ينطق أحد بكلمة تهنئة. فقد كان الحزب يملأ القلوب والتسليم لإرادة الله يخرس كل شىء، فلم ترتفع زغرودة أو شهقة فرح فى أى مكان تزف البشرى بوصوله أو تهنئ أى إنسان بمقدم ذلك الذى أتى من غياهب الظلمة.
كذلك – يذكر أن احداً لم يبك. ولم ترتفع صيحة حزن واحدة تنعى تلك التى رحلت بل سمع أحدهم يقول:
- أراحت واستراحت ..
وكان هذا هو كل ما نطق به ذلمك الوجه الذى أطل عليهما بملامح محايدة والذى تعرف فيه – فيما بعد – على والده.
لم يعقب أحد على كلمات الأب فأعقب قولته بتنهيدة طويلة تنطق بطور العذاب والمعاناة.
اليوم الذى انكره فيه أهل القرية:
حكيم القلب يقبل بالوصايا وغبى الشفتين يصرع ..
أخذ يشق لنفسه طريقا وسط بحر الملابس السوداء بصعوبة. كل نسوة القرية العجائز تزاحمن على درجات السلم، وحدث هرج كثير ومرج، وارتفعت صياحات وصرخات تنادى عليه، وأحاطت به الأذرع الجافة المعروقة والوجود المتغضنة، وتكلم الجميع فى نفس الوقت، يشكون له قلة الحيلة والعجز عن التصدى لمن يسرقون اقواتهن، وأخذ الجمع يشده يمينا ويساراً والأفواه تكاد تلتهم أذنيه، والأعين تمسح دموعها فى ملابسه حتى بدأ كقديس من عصور وسيطة أو كتمثال لرب وثنى بدائى وعاجز:
سرقونا .. نهبونا .. انت وحدك من سينجدنا . ليس غير ك من يستطيع الحديث إليهم بشدة .. انت تقدر أن توقفهم عن حدودهم، وما أظلمها، كلهم لصوص وأنت تعرف .. نقلوا اللبن إلى بيت الموظفين وأقارب العمدة ما هم فى حاجة إليه. (ابن خضرة) يطلب من كل واحدة منا عشرة قروش من أين ؟.. يقول إنه إكرامية لمن هم فوق . معقول؟ هل يرضى من هم فوق بعشرة قروش؟ أنه حين يريدون، يأخذون. ولكن ليس عشرة قروش أبدا… أنه هو الذى يريدها لنفسه،. انت تعرفه . حلفناك بأمك الغالية إلا تتخلى عنا..
ولم يكن فى نيته فى أى يوم أن يتخلى عن أحد لا يستطيع هكذا كان وهذا سيكون حتى عندما صرخت فيه امه وهى تتعلق برقبته:
أنا قلت لك ولم تسمع لى، لن يقف بجانبك أحد منهم عندما ستقع .. أكثر من ذلك أنهم يلعنونك الآن، وغدا سينسون كل ما فعلت، مالك وكل هذا لست وكيل الله على الأرض الناس كالقطط تأكل وتنسى ولا يرى الواحد منهم إلا ما يمسكه بيده، والكل لا يمسك هذه الأيام إلا بجمرة نار ملتهبة تعمى القلوب. البعيد عن العين بعيد عن الذاكرة، وأنت غبت كثيرا يا ولدى، سنوات مضت منذ رحلت عنا .. والبيوت أغلقت أبوابها على أبنائها، إلا نحن مازال بيتنا مفتوحا مثلما أردت أنت ولكن لا أحد يأتى ليطل علينا، كبرت أنا ووالدك. ولا أحد يحدث أباك إلا لضرورة أو لشفقة.. أولاد عمك أعماهم الخوف لم يذكروا أحداً منا فى نعى أبيهم . وأنا عندما ذهبت لاعزيهم رغم ذلك، كل النسوة ابتعدن عنى وكأنى الطاعون نفسه .. والآن يلجأون إليك، اطردهم من هنا لا علاقة لنا بالعمدة ولا بلبن العمدة، هذه المراة حرضت بنتها على عدم مساعدتى فى الغسيل. وهذه رفضت أن تذهب بالطحين إلى الوابور والآن يأتون الينا. يا ابنى نحن خائفون عليك والدك لم ينم منذ ليال من القلق منذ جمعتين مر درويش غريب بالقرية، رجل مبروك ذهب للجامع وهويسبح الله فى كل خطوة ومع كل نفس، ذقنه كالحليب وملابسه مرقعة، من أهل الله هو، من أهل الله. . اختلف الرجال فيما بينهم، كل منهم يريد أن يأخذه للغذاء بعد صلاة الجمعة، حتى يبارك له الله فى زرعه وأولاده.
الدرويش أغمض عينيه واستخار الله، واختار حسب وحى الله والملكوت أن يذهب إلى بيت ابن عمتك. زوجته مبروكة ومن أهل الله. الخير حل ببيتهم بوصوله، ذبحوا دجاجة التهمها كاملة والأولاد ينظرون إليه وينتظرون البركات. طول السهرة أقام الذكر وتلى الأوراد وسأل عنك، كان يريد أن يغفر الله لك.. سأل عن أصحابك وعن مكان الكتب المدفونة فى حقل القطن.. من أدراه؟.. لقد سأل عن الأوراق الملصوقة على جدران الجامع توطلب تمزيقها قال أن الحكومة تأتمر بأمر الله . والسلطان خادم الدين وأنه ورجاله مكشوف عنهم الحجاب، مالنا وما لهم . البن جاءت به الحكومة، توزعه الحكومة. حتى الدرويش قال هذا، وأبوك ضربنى لاننى ستمت الدرويش وقلت أنه يسأل كثيرا؟ فكيف هذا وهو مكشوف عنه الحجاب؟. يا ابنى ارحم نفسك .. الله يرحم من يعرف قدر نفسه !!.
الناس أدرى بحالها لماذا تدلهم على طريق الشر. الدرويش قال هذا، أتريد أن تقتلنى مرة أخرى ؟؟ حرام..
أنكره اهل الله وجانبه الفرح صاحبه الشيطان وشق ضلوعه
غسل القلب المتمرد فى ماء جهنهم سرق وكذب وعاشر قوادين وكهنة جامع صبيانا ونساء من لحم وخيال لعن طريق الرب وسكب الزيت وداس الكسوة
وأبح ر ملعونا فى كتب الثورة والرحلات..
أضل الله مراكبه فى بحر الظلمات!
فى يوم الجوع الأول مرض البحارة بالاسقربوط فاكلوا الخروع وجذوع الشجر الصحراوى وبعضهم مات من الخوف، وفى يوم الجوع الثانى أكلوا قربان الرب وسرقوا زيت التقدمة ونتفوا ذقن الشيخ من الغيظ وفى يوم الجوع الثالث سكن الموج وماتت كل رياح الدنيا وانفجر البركان الساكن منذ التفاحة، فانعكست كل الآيات وظهرت آثار اللعنة.
فى يوم الجوع الأكبر ذبحوا زنجيا صادوه من الشاطئ فارتعبت جنيات البحر ولعنتهم آلهة الحجر وربات الرحمة، ولما وصلوا تابوا ورموا بعظام الزنجى إلى البحر ولكن البحر انشق وظهرت للعين الحية..
نزلوا للماء طلبا للتطهير فلم يغسلهم بحر الماء جن الربان ونتف اللحية وسلم لليأس شراعه . فى آخر أيام اللعنة شق الحوت الكافر بطن سفينتهم حتى الموت !!
القى الموج به وحيدا فوق الجزيرة الورافة الظل ذات النخل القزمى والرمل الناعم الذى يعشق أطراف أنامه. أخذ يبحث عن رفاقه الذين انتشروا يصلحون الأرض الجرداء وقد أذله الجوع وهذه الندم.
لام تبارح جثتها خياله.. حتى وهو معلق فوق صدر الموجة التى حملته إلى الشاطئ خيل إليه أنه يلمس جسدها حيا نابضا فحمد الله على نجاته.
مد ذراعيه على طولهما، وتشبت بصخور الشاطئ وغاصت أصابعه فى لارمل الذى لم طعم اللحم العض، لمحها تنظر إليه وأكد لنفسه انه يرى فى عيونها نظرة لا توحى بأى معنى شري أو وشاية .. انتظر أن تأخذ بيده، لكنها بدت ميتة فى سرير عشيقها والدماء تنحدر نحوه كالموج الصخاب.
عندما عثر عليه الشيخ الطيب ذو اللحية التى فى لون اللبن الحليب والوجه الصبوح كتبت له حياة جديدة، كما أكد له فى حنان. ولما بكى لأنه نسى من أين جاء ربت الشيخ على كتفه وطلب منه أن يحكى له عنها ..
أحس براحة لذيذة وهو يحكى من بين دموعه قصتها معه منذ رحل إلى المدينة العجيبة حتى موتها أمام ناظريه، كانت تخرج إليه فى الليل رغم الحرس الطائف بالمدينة، لكى تطعمه أو تخفيه أو تنقل رسائله السرية.
وعندما حلت سنوات القحط والهزيمة ظلت على إيمانها وانطلقت تتغنى باسمه فى كل مكان وهى تبحث عنه. ورفض أهله أن يدلوها على مكانه، ولما حلفتهم بكل عزيز رفض أهلها السماح لها بذكر اسمه أو الصلاة من أجله. أصدقاؤه اتهموها بخيانته والتجسس عليه ولكنها صعدت إليه الجبل رغم رصاص الأعداء وقاتلت معه وإن كانت غير مقتنعة بأى سبب للقتال غير أنها مريضة حبا.
احتضنه الشيخ الطيب ونصحه بالبكاء كما يشاء حتى يغسل الدمع غربته وندمه، ويزيل ذنوبه، ووعده بأن يغفر له كل خطاياه وقال له:
لست وحيدا الآن فنحن معك. فقط استمر حتى يطهرك الاعتراف، سنعد لك السفينة ونجهزها لك بكل ما ندر من ثروات وتحف وبضائع. وسنأتيك ببحارة أكثر قوة وفتوة !!.
سنوسع خطواتك ونعيد إليها الحياة، وبفضلنا سوف تدرك أعداءك وستفنيهم ومثل طين الأسواق تدوسهم، وتسحقهم كتراب قدام الريح فقط لا تتوقف عن الحديث واحملنى للشاطئ الآخر ولا تجعل ماء الجدول يلمسنى.
غسل كلام الشيخ الأحزان فأحس ببعض القوة. وبالقدرة على تحريك لسانه وشفتيه. .. وحمله على كتفيه وعبر به الجدول .. وهناك انتظر فى أدب أن يشكره ثم ينزل عن كتفيه وأن يحرر رقبته، ولكن الشيخ لم يفعل: ظنه نائما فهزه هزا رقيقا .. لكنه لم يستجب .. بدأ الشك يزحف مرة أخرى إلى قلبه وحاول تذكر أين سمع صوته من قبل، حاول أن يفك ساقيه عن رقبته ولكنه احس لهما ملمسا معدنيا، كان يصرخ من الرعب. وأصابته الهستريا وهو يستجمع قوته فى محاولة للتخلص من قبضة السيقان المعدنية، لكن محاولاته لم تفلح – سوى فى جعلها أشد صلابة وقوة حول رقبته .. بكى من الذل والقهر والعجز وقلة الحيلة.
آفاق على صوت ضحكة ساخرة ماكرة فانتفض واقشعر بدنه عندما تعرف على مصدرها .. وفتح عيونه ليتأكد، كانت رأس الأحدب تحملق فيه وقد كشرت عيناه عن ابتسامة مداهنة خبيثة، وأمره أن يستعد للزيارة.
الصباح الذى تكلمت فيه الأوراق الرسمية:
قال الأحدب مواسيا:
"يعرفون انك ضعيف الجسم ولن تصمد، لكن صمتك يقتلهم. سمعنا المأمور يبكى بدموع حقيقية من الغيظ وهو يتحدث عنك فى التليفون، رغم أنه كان يهدد بدفنك حيا فى الصحراء. اقسم لك أن هذا حدث بعضنا شاهده من الكوة السرية التى صنعها زميلنا فى المكاتب لنشاهد ما يحدث عندهم! نوع من التسلية.. صدقنى..".
عاش حياته يثق بالبشر ويشفع لبعضهم دناءة الطبع ولآخرين الخسة التى يخلقها الفقر، ويختلق المعاذير للصوص وحتى للقوادين وبائعى اتلوهم وللمحترفات لكنه أبدا لم يجد تبريرا يصلح لغفران الخيانة.
ورفض أن يصدق الأحدب خوفا من وطأة عذاب جديد.
لكنه مضى معهن فقد كان الباب مفتوحا والأوامر صريحة. وضحكة الحارس التركى كانت مفعمة بالرثاء والسخرية، فتجمع الأطفال وتسلق بعضهم السياج الحديدى يرقبونه فى صمت وحزن. ولمح فى عيونهم المريضة آثار دموع صديقة ولم ير حول أفواههم أى أثر للسخرية فأحس أن من واجبه أن يصدق مشاعر الأحدث والا فسوف يضعف وسيتمكنون منه فى غرفة التحقيق.
وحين لمح من بين حديد السياج طفلا غلبه البكاء يجاهد كى يدارى مشاعره ويمسح دموعه خائفا أن يلاحظه أحد الحراس، امتلأ قلبه بالفرح، واستطالت قامته رغم الألم الحاد فى نهاية سلسلته الفقرية.. وتدفق الشعر فى عروقه دافعا به إلى تلك المساحة التى عاش يفضل دائما أن يوزان فيها بين كآبة الحقيقة وابتهاج الحلم.
وشحنه هذا بقوة هائلة أخذ يسن عليه أسلحة صمته استعداداً لتبادل الطعنا مع ذى السترة الذهبية والشارب التترى الغاضب: ما الذى أتى بك إلى هنا؟.. من الذى أرسلكم؟ لحساب من تعملون ومن الذى دفع لكم؟ كيف يجرؤون على تدنيس مقدساتنا بأفكاركم؟ إلا تعرفون أن سلطاننا قادر على تحطيم كلا معارض فما بالك بمن يعيشون على طعام الغرباء؟ أيها الأحمق مواهبك تشفع لك فتشفع. أحلامك سهلة التحقيق فاطلب. لا تركب رأسك واركب الفرصة وإلا.. اتق شر الحليم؟.. ماذا .. ؟ ماذا قلت ؟
ظل مثبتا عينه الصامتة فى جوف عينيه الخابيتين المرهقتين من السهر والفسوق أو من ثقل العمامة ذات الطبقات. فازداد قلق المحقق، وانتابه الاضطراب فأمرهم بإشارة خفية أن يعدوه لتبادل الحديث أولا.
سحبوه على الأرض إلى حجرة التجهيز على الفور، وخلال الكوة السرية راقبه الأطفال وهو يرفض الاستجابة، بل وابتسم لهم فقد كان يعرف الآن أنه يراقبونه، تشجع بعضهم وتماسك ولكن البعض الآخر ماتت أصابعه فوق حديد السياج وتكوم البعض الآخر فى الأركان بعض صخر الجدار مرتعبا بينما راح آخرون بلا أمل يقتسمون سيجارة رخيصة ملوثة.
أعادوه فأعاد الرجل فى السترة الذهبية سؤاله، رغم أنهم ناولوه التقرير السلبى عن مدى استجابته لوسائل الإعداد الحديثة والتى قررت أنها حالة (عدم قابلية فطرية للاعتراف) وتحتاج لجراحة واستئصال عضوية. فتوجه الرجل بأسئلته إلى الحارس المدنى المرافق:
متى وصل إلى شواطئنا؟!
سافر فوق جناح الرخ إلى حافة جزر المرجان.
يحلم أن يتمرغ فرحا فوق العشب الأخر فى آخر أيام العالم.
يتمنى أن يغتسل بكل مياه الأنهار.
يشم جميع الأزهار.
ويقرأ كتب الحكمة والحب ويسمع كل الأشعار.
فمضى يأكل خبز الذرة الأسود يصعد سرا خيل العمة.
ويبول على سلم قصر الوالى.
ويطارد نحل العسل البرى
ويجرى تحت الأمطار يشم زهور البرسيم
ويلاعب أطفال الفقراء.
يقضى الليل بأكواخ منفية.
يشرب لبن الماعز فوق تلال فلسطين.
يصلى فى معبد (بوذا) عيد الفصح.
وفى الكعبة يغفو ليطالع وجه رسول الله.
وفى دلفى والأديره الأولى
يعانق (إيزيس) ويتلو كتب (الخضر).
يشرب خمرة (باخوس).
يضاجع فى ركن الزنزانة كل نساء العالم.
وحين رآها أول مرة.
كشف العالم عن أول أسراره.
فأبصر كيف تدور الأفلاك.
وكيف يعيش الشعب الرعب ويقتل خوفا.
أو جوعا أو خسفا.
انكشف الغيب فقرأ سطور المستقبل.
حرفاً حرفاً..!
قص رسول الملك عليهم كيف عثروا عليه ضعيفا، خائفا، جائعا، لا يقوى على السير عند البئر، يوم ذهبوا لتلقيح خيل السلطان – أطال الله بقاءه.
أخذوه إلى القصر ونظفوا جسده، وطهروا جراحه، وحلقوا له شعره وشاربه وأطعموه أفخر الطعام وسقوه ألذ الشراب وجعلوه يدخل المدينة دخول الفاتحين بعد أن سلموا لوالده حسب القواعد كل ما يخصه من ملابس ونقود باستمارة صحيحة.
ووعدوه برضاء السلكان وعفوه، وسمحاه بتجهيز سفينة ذات أربعين شراعاً تعود به إلى بلاده محملا بالهدايا السلطانية ومودعا بالأهازيج الشعبية، لكنه ليس وثن نعمة فقد رفض بغباء وعناد .. أن يدلنا على مكان رفاقه أو حتى أسماءهم وأعلن العصيان وانطلق يصرخ فى الشوارع الرئيسية المزدحمة بالأجانب والسائحين، مطلقا شعارات بذيئة معادية ويعلق صحفا حائطية فاسقة على جدران المدارس والمساجد. وأحدث من الضجيج والصخب ما أزعج أفراس البحر فرفض أن تصعد من البحر كعادتها كل عام لتضاجع خيل السلطان ليعم الخير ويجد الفقراء ما يأكلون .. وسمع السلطان اسمه يتردد على لسان الخلق بلا احترام، بل وفى قلة أدب، فحط عليه الهم واكتئب، ولم يعد يضحك كالعادة فى وجه وزير الدولة فقطع الخلف. وأخذ يهدد بالويل جميع الغرباء والشعراء وحراس الليل وسياسى الخيل وأرازل الناس ووجهائهم.
حاول الرجل فى السترة الذهبية جاهدا أن يظل بعد كل ما سمع محافظا على الحياد الجدير بقاضى الشرع وحامى ناموس الكون فأخذ يقضم قلم الأحكام فى عصبية وقلق ثم قال:
هل كانت كل تلك الأوراق هنالك معه ؟..
رد المخبر مؤكدا:
بالتأكيد نعم .. ولكن…
لم يعجب هذا القاضى ووجدها تعرقل فكرته فصاح غاضبا:
ولكن … لماذا ؟ …
فأخذ المخبر المتمرس يشرح فكرته فى هدوء الواثق:
يوم عثرنا عليه بعد طول بحث لم يكن معه شىء، وهذا أمر طبيعى معهم، فلو أنه كان يحمل شيئا لما أثار شك الحراس، لكن مثله صاحب خبرة قديمة يستطيع أن يخفى المنشورات السرية تحت جلده، هكذا عرفناهم دائما أنهم يتقنون علوم الكيمياء والفلك ويتحدثون مع السحب ونباتات الصبار، لكن هذا لا ينفع معنا، نحن أمكر منهم فنحن نعمل حسابهم منذ سنين طويلة .. قرون طويلة يا سيدى نعرف عنهم أكثر مما يعرفون عن أنفسهم نحن نراقبه منذ ميلاده مثل غيره يوم مولده قتل أمه، وعندما بلغ الحلم تنكر لأبيه وعندما عرف القراءة أنكر دينه. ولما أحب، تمرغ فى كنف الشيطان وبدل كلمات الله وعبد النسوة، وأن استطاع فلينكر، لكنه لا يجرؤ فتقارير الأمن وصور البصاصين وشرائط القمر الصناعى تؤكد أى يقين نتبع – الشك فى ناموسنا ضياع والتردد استسلام للوسواس الخناس ولذلك من أجل اليقين نراقب الجميع لاحقاق الحق .. فكم من الأعداء ينتظرون الصدفة لأن الصدفة على طول التاريخ كانت اعدى أعداء الدولة ومصرع السلاطين.. فاطمئن يا سيدى .. نحن لا نترك شيئا للصدفة أو للتخمين أن اول رجل قابلناه فى القرية أخبرنا باسمه .. ورائحة الزيت المحروق قادتنا إلى بيته. ورأينا ما كتبه المخلصون على الجدران نكاية فيه .. يا للعار ، سمعنا قصصا يخجل منها اللوطى .. فصائع مؤكدة، لا يستطيع حتى إنكارها .. أنظر … أنه يبتسم موافقا ويلتزم الصمت ظنا من أنه سيستعصى على التجهيز .. بينما كان لا يخجل من معاشرة العجائز لان هذا أحد مبادئهم . كما أكد لنا العمدة وهو يوزع علينا مصل القوة الذى يعتبرونه سرا…
وشاركه القاضى ضحكته طربا، وهو يناوله نصيبه، ويرقب معه فى شبق جثتها المسجاة بالمشرحة عارية تماما… كان الجسد الغض يبدو دافئا بالحياة، فأشار القاضى للمخبر إشارة بديئة اهتز لها الواقفون اهتزازة دنيئة وضحكوا طربا، وهم يفحصونها باهتمام!.
وسمعت القهقهات العابثة فى الفناء. فتجمع الأطفال مذعورين واحتموا بالزنازين. وجمع الأحدب أشياءه ولفها فى عجلة ثم دسها فى مكانها الأمين، خوفا من حالة الطوارئ التى يعرف بعريزته أنها ستبدأ بحثا عن الممنوعات وانتقاما لصمتنه الحجرى.
سرت الضحكات وآهات الرعب عبر الممرات المسقوفة بالطوب الأحمر والملطخة بزيت المشاعل وهباب النار ودماء الأسرى. واخترقت جدران القلعة إلى الحوارى الضيقة المجاورة، وظل الرب هو الآخر صامتا يرقب ما يجرى كاله وثنى قديم دون أن يثير غيظ أحد بينما اندفعت جموع الذعر والعوام ترقص فرحا فى ميادين المدينة، وهى تصرخ بكلمات فاضحة طالبة الموت لكل من يقرأ كتبا، بينما رفعت فوق أسنة الرماح وعصى المكانس أعضاء تناسلية ممزقة ودامية..
وقاد الجند – راكبون وراجلون – جماعات السوقة وهم يرفعون فوق أسنة السيوف رؤوس فتيات نوبيات وروميات ومصريات عذارى، مقطوعة الآذان يتصاعد منها بخار الدم الحار، وتنطلق عيونها – التى لم يغمضها أحد – بنظرة الرعب الأخير اليائسة، التى تزرعها المفاجأة فى عيون بريئة. وأطل السلطان المتمتع بحب الشعب فزعردت النسوة المجتمعات فوق أسطح المنازل. ولم تليت برقيات المبايعة والتأييد نثرن الورد وماء الزهر أمام موكبه، فمضى يشق الجموع بصعوبة، فى جبة سوداء ذات (طراز زركش) ووشاع أخضر وسيف يمانى، وسار بين يديه قائد عسكره الجديد الذى حل محل وزيره المقطوع الخلف وهو يحمل القبة منحنيا، يفسح الطريق للموكب الذى مر بخزانة شمايل والعرقانة حيث ذبح الأطفال وسط عاصفة الرعب، حتى وصلوا إلى باب سر القصر الكبير ليجلس مؤيدا بنصر الله والشعب على كرسى السلطنة.
والى كل جهات البر انطلق المنادون والمطبلون يبشرون بالأمان لكل إنسان.. فضج الخلق فى الأسواق والمساجد بالدعاء. وفرق السلطان الهبات والعطايا على عسكره ورجال حربه، الذين نصروه وساعدوه على قطع دابر الفتنة وانقاذ عباد الله المؤمنين وأميرهم ودينهم من الكفرة والملاحدة ومعاشرى اخواتهم فى الحرام، وأعلن السلطان أنه إذا ما استقر الأمر له فإنه سوف يجعل من أسوان جنة ويخلط ماء النيل بالعنبر ويصدر عفوا شاملا عن كل من كان السلطان السالف قد سجنهم ظلما، ووعد أيضا بتطبيب خاطرهم وبأن يخلع عليهم الخلع الشاهانية.
وعلى الفور تم إلقاء جثث العذارى والفتيان المارقين إلى الكلاب تحت المقطم، فظلت أصوات القضم والقرقشة مختلطة بصرخات ألم وآهات موت تسمع خلف الجيوشى! وكان العسكر قد عادوا برؤوس الفتنة، فصلبوهم فى الرميلة جماعة بعد جماعة بعد تجهيزهم بالخوازيق عهلى دقات الطبل والاعيب المحبظين والحواه الذين ظلوا يرقصون فى المسافة بين الخوازيق وباب القصر حتى المساء. ثم أنطلقوا مع الجند يقطعون الأشجار ويهدمون البيوت ويخربون بساتين أعداء السلطان بحثا عن المنشورات والسلاح وخوفا من التجاء المتمردين إليها.
ومات يومها خلق كثير تحت الانقاض وتحت سنابك الخيل بلا عدد.
ولكمن ما أن حل الليل وأذن المؤذن لصلاة العشاء، حتى هبت على المدينة رياح سوداء لها رائحة نتنة، ففزع الناس وخرجوا يدعونه الله ويطلبون الرحمة. وفاض الرعب فاستجاروا بالسلطان وحاصروا القصر، ولكن الحراس وجوده مخنوقا عاريا فى فراشه، فساد الذعر واضطرب الخلق كثيرا وقرع الطبل ودقت الكؤوسات.
وأدخلت النسوة الناجيات أطفالهن الناجين إلى البيوت التى بقيت دون هدم وأغلقت أبواب الحوارى التى لم تحرق …
وأفتى شيخ الجامع أنها علامات الساعة، فتاب الناس على يديه آملين فى عفو الله وغفرانه وهو الغفور الرحيم.
وحل الصمت والترقب، وساد سكون مريب شامل إلا من آهات يائية لا تكاد تبين..
وفى منتصف الليل بالضبط صرخت امرأة مصرية صرخة مرعبة، سمعها الناس فى جيزة حلوان عندما كشفت عن بطن ابنها المنتفخة فزعقت من الهول – الطاعون ..!
ارتعش قلب الرجل فى السترة الذهبية ساعتها. ونظر إلى أسيره الصامت فى حقد وهو يعجب لبقائه حيا حتى الآن.. فأسرع يغلق دفاتره ودواته وصاح فى الحارس غاضبا، وامره بالابتعاد بذلك الملعون وعزله فى زنزانة التأديب. حتى تنكشف الغمة وتتضح الأمور. ويتبين الخطي الأسود من الخيط الأبيض ويعرف الخلق إلى أين ستمضى الدنيا فى هذه الأيام الصعبة، فهو بالتأكيد لن يفعل شيئا حتى تصل إليه الأوامر الجديدة.
المساء الذى قاربت فيه الرحلة على الإنتهاء:
أحس قبضة الحارس تخف عن كاهله، لكن وقتا طويلا مضى قبل أن يكتشف أنه يسير وحده فى الدهليز الخالى. وسمع لوقع خطواته رنينا ذى صدى معدنى مخيف.
توقف يتسمع. وتأكد أن أحدا لا يتبعه بالفعل، فكف الرنين ومات الصدى ولأول مرة منذ جاء إلى هذا المكان أحس الخوف ينهش قلبه ككلب وحشى، خوف غريب بعثه الفراغ المريب الذى يحيط به، لقد كان وجود الآخرين يعطيه الأمان الذى أعطاه له صوت الآلة الكاتبة، عندما سمعها تكتب حروف اسمه فى الدفاتر الرسمية ليلة وصوله.
طارده الخوف. فانطلق يجرى مضطربا، وقد تسارعت دقات قلبه وانتفض نبض الدم فى عروق رقبته وأذنيه. وأحس بإغماء خفيف فحاول الاستناد إلى الحائط ولكنه فزع فمنظر الدماء والزيت الجاف المحترق والتاريخ الراكد المتراكم فوق الحجارة. فتماسك وظل يجرى وأقدامه تتعثر فى خوذات مهشمة، وخناجر يسيل عليها دم حار حى، وملابس ممزقة وأشلاء بشرية مهروسة.
عشيت عيونه عندما غمره النور المفاجئ فى نهاية الدهليز، فاستند إلى الجدار مضطرا، حتى تعود على الرؤية فأجال بصره فى الحوش، كان ثمة بعض الرهبان فى ثياب سوداء يذهبون ويجيئون وهم يتناقشون فى عصبية، وقد عقدت خطورة الأمر سنوات العمر فوق جبينهم وجعلتهم لا يهتمون بجثه الفتاة المذبوحة المسجاة على الصندوق.
لكن رجلا عاريا خرج من بئر المازوت وهو يلوح بذارعيه طالبا غفران المولى – فبدأ كمن يحاول أخافة الأطفال أو مشاغبة المعتوهين – اتجه نحوها وأخذ يحتضنها وهو يبكى بكاء مرا، وهو يهدد ويتوعد. وعندما انتهى من تلطيخها تماما بالمازوت العالق بجسمه أشعل فيها النار وهو يتغنى بالنشيد القومى ويدور حولها فى خطى عسكرية.
خاف أن يلاحظ رجل المازوت أن ثمة تشابها بينه وبينها فانطلق ناحية العنبر، لكنه لم يسمع صوت الأطفال يملاه بالحياة والمرح كالعادة فأحس بسكين تنغرز فى لحم صدره عندما مرت بخاطره الفكرة - هل يمكن أن يكونوا قد أغرقوهم فى المازوت فى غفلة من الرهبان المتجادلين؟ لكنه استعاد هؤلاء عندما لاحظ انه ليس هناك أى اثر لحرائق أو وقود فتح الزنزانة الأولى والثانية فلم يجد احدا ولم يتبين أى آثار لعنف فهدأ خوفه قليلا، فمع أنه كان يكره حتى الموت عيونهم اللزجة وأسنانهم التى سودها الدخان إلا أنه كان يأنس لضجيجهم حول زنزانته، و يتزود بنظرات التعاطف التى كانوا يودعونه بها كلما سحبوه إلى غرفة التجهيز أو ايقظوه فى منتصف الليالى للتحقيق معه، وأحس بشوق جارف لرؤية الأعور، أو الاحدب، أو .. حتى الحارس الذى ربما احترفت وزجته الزنا لأنه لم يستطع توفير السجائر له أثناء نوبة حراسته.
جلس على السلم ليستريح قليلا من عناء الفكرة التى راودته والتى شرخت قلبه خوفا على الأطفال. وفكر أن ينادى عليهم لإنقاذه من وحدته عندما لمح احدا الأقدام الغضة تتدلى من أحد الأبواب فى الدور العلوى، فانتابه الفزع وتحامل على نفسه وصعد السلم مستندا إلى السياج حتى وصل إلى الباب، وحاول دفعه، لكن الباب رفض الاستجابة فمد يده ليزيح ما خلفه فغاصت يده فى كومة مهولة طرية من الأشلاء والدماء، لقد ذبحوهم جميعا ولم يجدوا وقتا لحرقهم، أخرج يده من بين أسنانه بصعوبة وجمد الدم فى عروق عينيه المفتوحتين رعبا، وتحشرجت فى حنجرته صيحة ألم بربرية انطلق فى أثرها يجرى صارخا مثل كلب محاصر..
استقبلته الشوارع الخالية بلا ترحيب مثلما فعلت قريته فى زمن لاحق لكنه أخذ يمنى نفسه بلقاء بشر آخرين إذا ما ابتعد عن مركز الاحداث فظل يجرى…
وهدأ قليلا عندما أخذ يؤكد لنفسه أنه على وشك النجاة، فقط عليه الوصول إلى الشاطئ. وعندها سوف يحرق ثيابه لتراه أى سفينة تأخذه إلى بلاده وعليه الآن أن يجد الطريق إلى البحر بنفسه أن الفرصة لن تتكرر والقاضى لن يصدر أية أوامر لملاحقته لأن الأوامر الجديدة لم تصل إليه بعد والحرس مشغولون بالقتال مع الحرس.. أو بذبح الأطفال والنساء.
والهوجة قد تستمر على الاقل يوما أو يومين..
يمكن أن يفلت إلى الأبد من غرفة التجهيز.
ولمح شاطئ الأمان يقترب بشكل مؤكد. فارتاحت نفسه لأن عذابه لم يمكن سدى. وسيغفر له والده وأمه ووالدها وأهل قريته كلهم عندما يعرفون إلى أى حد احتمل حتى لا يشى بهم. وكيف واجه دون أن يفكر لحظة فى خيانة أحد مهم أو إزدراء من ضعفوا، حتى صاحب دكان السجائر والجيران الذين نهشوا لحمه، ودلوا أعداءه على مكانه، أنه يغفر لهم جميعا لأنه يحبهم.
وتأكد أن حياته لم تكن عبثا فوصوله إلى الشاطئ يمكن أن يكن مبررا كافيا لحياته السابقة، بل أن حياته سوف تتأكد ضرورتها عندما يعود إليهم ليبدأ معهم من جديد…!
سوف يتأكد من توزيع لبن المعونة على العجائز رغم انف العمدة والطبيب، ولن يستمع لاعتراضات أمه وعتابها المشوب بالأنانية وسيقنعها أن رحلته ومعاناته لم تكن من أجل أن يسمح لأعدائه بالاستيلاء على مؤونتهم، وسوف يعدها بتعويضها عن حرمانها الطويل بأن يعيد لوالده العجوز بقرته واحترامه. وسيؤكد له أن عذابه – رغم عتابه الجارح – كان من أجل تحقيق أهدافه البسيطة.
وابتسم عندما تخيل كيف ستسقبله المرأة ذات الفخذين الهائلين عندما سيدخل شارعهم القديم.. وكيف ستبسم له ثم تسبقه إلى الداخل، وكيف سيتبعها لترجوه فى دلال أن يستلقى على البرسيم الأخضر الطرى تحت البقرة مثل (البو) لتدر كل ما فى ضرعها من لبن.
واقسم بينه وبين نفسه انه سوف يفى بوعده ليتزوج البنت ذات الضفائر المبتلة لكن ينقذها من قسوة أمها وجنون أبيها، وسيفعل كل ما فى وسعه كى يمنع زوجة السباعى من (سفخ) كلبها بالحجارة عندما يجرى نحوه متعرفا عليه.
وسيشارك صاحبه القديم فى إعداد المعجنة وضرب الطوب وسيشوى لأولاده الذرة فى عين (القمينة) وسينافسه فى إنجاب الأطفال الضاحكى العيون ويعاونه فى إبعاد خطر الحرس التركى والسجائر عنهم.
تعثر فى أحد الأحجار الناتئة فانتبه إلى انه ما يزال يجرى فى الشارع المرصوف بالحجارة السوداء، وأن لوقع اقدامه ذلك الرنين ما يزال. وأن الصدى الرهيب ما نفك يطارده فأحس بإحباط هائل، وانسحب إلى حارة جانبية كى يلتقط انفاسه وليتبين موقفه جيدا وليبحث عن حماية ما …
كانت الحارة التى عرج عليها مألوفة فابتهج قلبه.
كانت تموج بالحركة والضياء وأصوات الناس فاحتضن فراغها بحب واندفع يملأ منها صدره وعينيه.
كانت الداية تجلس على حجر رشيد تبيع فولا نابتا وتنتهر طفلا سرق جبتين، وتفاصل رجلا يحاول أن يسرق منها مليما.
وقف على رأسها فالتفتت إليه مذعورة ومدت يدها، ظنها تريد مصافحته لكنها أسقطت فى كفه شلنا فشكرها وتركها ونظرة شك وغيظ تلاحقه، ودعوة صامتة تلعنه هو وأمثاله من الجبارين وآكلى الحرام.
لمح المرأة ذات الفخذين تقف أمام بيت ذو عتبة عالية، واستطاع أن يتعرف على ملامحها بالرغم من الصبغة الفاجرة التى تغطى وجهها وشفتيها.. فقد كانت تكشف عمدا عن فخذها الوردى وهى تنفث دخانا كريها كان أن يخنقه. عندما اقترب لم تسأله عن حاله ولكنها سألته عن مقدار مع معه من دراهم. ذكرها بزوجها فضحكت فى عهر .. لمح لها بيوم البقرة والبرسيم فاشمئزت، واستدعت رجلا جهما تحيط بذراعيه أساور حديدية فآثر السلامة وانطلق إلى الجهة الأخرى حيث كان الحارس التركى والقاضى ذو السترة الذهبية، يقطعان ويبيعان لحما موشوما برسوم غريبة. فانطلق مبتعدا يجرى وسط زحام الخلق وقد امتدت على جانبيه إلى مدى البصر دكاكين ملونة ومضيئة علقت على واجهاتها نماذج طائرات شحن من البلاستيك وأكياس (أنفورا) وصورة سلطان جديد يرفع صلوجانا ذهبيا.
سمع صوت ابنة عمه ذات الصدر البرى تناديه فرق قلبه، والتفت إليها فرحا ولكنها لم تعطه أى فرصة كعادتها إذ اطبقت على كفه وجذبته نحو مدود الأغنام تحت النخلة الحيانية، ولكنها لم تكن تلهث هذه المرة إذ أجلسته فى حدة، وأخذت تحدثه بكل جدية، حكت له كل ما جرى لأهله فى غيابه، وأكدت أن عليه أن يعود من حيث أتى فليس هناك الآن من هو على استعداد للتستر عليه، علاوة على أن رجال السلطان الجديد يحاصرون القرية والعزب المجاورة و(جابوا عاليها واطيها) بعد أن أودعوا والده الموريستان لأنه منذ رحل لا يكف عن الحديث عن رحلته وقرب عودته.
لم يصدق ما يسمع ولكنها ذكرته بحبها له وأنها لم تكن تطلب منه الابتعاد أكثر مما فعل إلا (للشديد القوى) ولو علم أبوها بما فعلت لذبحها فالأحوال صعبة وكل واحد مطالب الآن بإظهار ولائه بشكل ما.
لم يجد ما يقوله فاعتذرت بضرورة ألا يراها أحد معه، ودلته إلى طريق غير مأهول يمكن أن يصر به إلى حافة الصحراء وهناك قد يعثر على قافلة تجار أو عصابة مطاريد يوصلونه إلى الشاطئ، وطلبت منه أن يسرع، فالكل مشغولون بالاستعداد لحفل التتويج السلطانى. وقبل أن يرد… قبلته واختفت وسط جيوش الباعة الجائلين ومناديى والسيارات، ولاعبى الورق، والحواة الذين أحاطوا به من كل جانب، وقد أثارتهم ملابسه الغريبة، والتى تبدو كملابس سائح من بلاد متخلفة غنية، لكنهم عندما عرفوا بإفلاسه سبوه وسبوا أمه وطلبوا منه أن يذهب ليقتل نفسه غرقا فى المجارى.
لم يكن فى خطته أن ستنجد بأحد الحراس ولكن عدم وجود حرس من أى نوع، بدا له أمراً غريبا، فهو لم يعرف أن أوامر مشددة أصدرها السلطان الجديد قضت بعدم نزول الفرق العسكرية إلى الأسواق تجنبا لتحدى مشاعر العامة والاستعاضة عنهم بآخرين من نوعهم يرتدون الملابس المدنية ويمارسون كافة أعمال الناس.
لو أن امة قامت من (طربتها)، ولو أن والده عاد كما كان يطعم البقرة فى هدوء، أو لو أنه سمع بأذنيه حكم البراءة والسماح له بالعودة إلى قريته، لما رقص قلبه سروراً مثلما رقص .. ساعة خرج عليه الأحدب من وسط الزحام فاتحا ذراعيه فى ترحاب وحب.
احتضن صديقه وسار معه وقد جاشت مشاعره فلم يتمكن من النطق بحرف واحد، لكنهما تبادلا كثيرا من النظرات ذات المعنى، وتبادلا الضغط على الأذرع فى ود والربت على الظهر والخدود فى حنان.
كان الأحدب نظيف الثياب بشكل ملحوظ، ويدخن سيجارة أمريكية. ولما سأله عن الأحوال وكيف نجا من الذبحة وكيف سارت معه الأمور، طمأنه الأحدث ببساطة قائلا انه وجد عملا مريحا مربحا وأنه لن يلبث أن يشترى عربة يحولها إلى تاكسى يعمل عليه بنفسه.
تمنى له كل توفيق وطلب منه أن يساعده على الخروج إلى الصحراء حتى يجد الطريق الآمن إلى شاطئ البحر لأنه لا يستطيع التمييز بين الناس والشرطة ويخشى أن يطلب احد منه اوراقه فيكشف أمره. أو يوقعه سوء حظه فى يد الحارس الذى تسبب فى احتراف زوجته الدعارة بسبب قلة سجائره وهداياه. ثم وعده الأحدث وأخبره أن الحارس نفسه قد قتل لإهماله فى حراسته. ثم وعده أن يسهل له أمر خروجه من البلاد فهو يعرف أناسا ذوى نفوذ. وعلى الفور انطلق معه وهو يؤكد له أن رحلته قد قاربت على الانتهاء وأنه سوف يظل يذكر صداقته مؤكد أن ابن الحرام وحده – هو الذى ينسى العشرة وينكر العيش والملح والسجائر الملوثة.
ضحك من قلبه استجابة لضحكة الأحدث ومضى معه واثقا فى كل شىء.
عبر به الأحدب السوق محتفيا به، مفسحا الطريق أمامه، مبعدا عنه المتسولين والخبرين وذوى العاهات، وسقاه شرابا ملونا، واخترق معه عدداً من الدروب الجانبية والحوارى الضيقة حتى وجدا نفسيهما أمام أحد الأبواب. توقف الأحدب وأخذ هو يتأمل ذلك الباب الذى خيل إليه أنه قدر رآه من قبل، ولما التفت إلى الأحدب متسائلا، وجده يكشر عن ابتسامة خجلة وأسنان مشوهة وهو يدعوه إلى الدخول فى أدب.
انكسر شىء ما بداخله وهو ينظر إليه فى عتاب، بينما وقف الآخر أمامه ساكنا وعندما ثبت عيونه المتسائلة فى عينيه لم يقو الأحدث على المواجهة فنظر إلى الأرض والندم ينهش قلبه والخزى يلف حدبته كهالة القديسين الخونة، وأخذ يثرثر بلا انقطاع محاولا التخفيف عنه ومبررا فعلته بالانخراط فى البكاء…
قال (عفان) لـ (بلوقيا) أن الذين يتركون الندم يراودهم على إرادتهم لا يصلحون للمهام الكبيرة، أن ملكة الحيات حبيسة قفصها الآن ونائمة بفعل المخدر وبعيدة عن أرضها وناسهن ولكنها عندما تستيقظ ستعرف أنها تقوم بمهمة تاريخية عظيمة، لقد اخرجت جدتها (آدم) من الجنة ودفعته لإرتكاب أول خطيئة ولكنها ستكفر عن ذلك وتهبنا ماء الحياة، ستعيدنا إلى الجنة وسأقف على حافة الزمن أتحدى الموت والفناء.. أن كنت متعبا أبك، أرح نفسك، أن قليلا من البكاء يصلح النفوس المتعبة، وكلن يجب أن تعرف انك لم تفعل ما يخجل إلى هذه الدرجة، أن فعلتنا يبررها ما ستجنيه البشرية بسببها، وغدا نطلق سراحها بعد أن تدلنا على العشب السحرى لتعود إلى أهلها وقطيعها ومملكتها كما كانت ولكن العشب سيحملنا عبر البحار السبعة إلى هيكل (سليمان) حيث الخاتم الذى سنصل بقوته إلى ينوع ماء الحياة.
يومها سوف تتبين أن الموت والقتل يعتبر ثمنا بخسا لما سنحصل عليه سويا، العالم تغير يا صديقى ولم يعد الخط المستقيم هو أقص الطرق إلى الهدف، أن فعلتنا سوف تحقن دماء كثيرة وتوفر سنوات طويلة من الجوع والسجون والموت. وستفهم الأجيال القادمة عظمة فعلتنا حين يبررها انتصارنا الأخير..
لما أفاقت ملكة الحيات وتعرفت على موقفها فزعت وأخذت تدور فى قفصها بعد زوال أثر الخمر واللبن المسكر، وأخذت تصرخ وتتأوه فى إنكار عندما تعرفت على (حاسب كريم الدين)، فانطلقت تجلده بكل سياط العالم غير ملتفتة إلى عيونه المنتفخة بدموع الندم:
سوف تندم ندما لا يهدأ .. الخيانة لا يبررها شىء يا (حاسب) حتى ماء الخلود . فلا تصدق كل ما يقال يا فتى وتذكر أننى انقذتك من أيدى أصحابك. أخرجتك من جوف الجب عندما خدعوك، لقد أعطيتهم كل شىء فأخذوه بلا خجل وألقوا بك فى غيابة الجب ولولاى لكنت عظما وترابا والآن تسلمنى يا (حاسب)؟!
استطاع أن يرد فى وهن منتزعها حروف الكلمات من تحت ركام الأحقاب والحروب والمجاعات والأسفار الطويلة وعذاب الخيانات الأزلية:
ليس هذا إلا لوقت قصير أنها مهمة موقوتة.
ضحك ملكة الحيات ساخرة:
قالها بلوقيا من قبل يا حاسب، أنها دائما مهمة موقوتة.
كنت أعرف أن بلوقيا سوف ستطلق سراحى، إذ لا يبقى معتقل إلى الأبد. ستفتح قفصى بعد أن أدلك على العشب السحرى ولكن كيف ستطلق سراح نفسك؟. كيف ستفتح قفصك؟ أنى أتنبأ ..! سيموت صديقك محترقا بالنار يموت .. وسيعصر قلبك حتى الموت فقدان الحب وثلج الوحدة، أنى أتنبأ ..
أجهش هو الآخر فى البكاء وهو يقول للأحدب ولقائد الحرس الذى ظهر مصدراً أوامره لرجاله:
حتى ماء الحياة لا يبرر الخيانة!..
وحاول الأحدب أن يبتعد عن طريق الحرس ولكنهم لم يتنبهوا إليه، أو هكذا بدا الأمر عندما وقع تحت أقدامهم المهرولة المندفعة، فصرخ وحاول أن ينبههم لحقيقة أمره ولكن أحداً لم يلتفت إليه، إذ كما قيمة جثة جديدة موالية وقد سحقوا آلافا مثلها منذ الصباح الباكر؟!
وزحفت ملايين الفئران والحشرات على جسد الأحدث المهروس تحت اقدام الحرس، بينما تقدم منه قائدهم ذى الوجه الثعلبى:
ها قد عدت مرة أخرى، ألم أقل لك أن كل شىء يمكن أن يضيع فيما عدا الأوراق الرسمية وكم ابتعلت كثبان الرمل المتحرك أمما وقبائل حاول أن تنقذ نفسك، كل السفن ستغرق وسط البحر المجنون كن أنت العاقل.
تحصن خلف جدار الصمت فانقض عليه حارس حليق الرأس بلا شوارب واقتاده نمن قفاه إلى قاض فى سترة موشاة لكن هذا ما أن رآه حتى صباح بهم فزعاً:
لا تحضروه إلى هنا إلا بعد تجهيزه تماماً، أنا لا اريد أن أكرر أخطاء الأحمق الذى كان يتعامل معهم قبلى.
عندما سحبوه على الأرض نحو غرفة التجهيز أحاط به جمع من الأطفال الجد المشوهى الأسنان ذوى العيون التى يسيل منها الصديد، فتطلع إليهم مستنجدا .. لكنه ابتلع ابتسامته…
فلم يكن على وجوههم أى أثر للتعاطف..
اللحظة التى أنهى فيها الجلاد مهمته:
وها هو الآن بعد أن حاولوا هدم جدار الصمت الذى احتمى وراءه بلا فائدة – يرقد فوق الرمال يحاول جاهدا إقناع نفسه. أن كل ما مر به حدث فى عصر آخر.
لكن الأيام تسربت من بين أصابعه الدامية ولم يستطع استرجاع حديث القبرة أو مشهد البقرة، فقد كان الجلاد طويلا كالنخلة له أذرع كالصوارى وأسنان كالمدارى – واقفا يسد الأفق بصدره الأملس الصخرى يخيف الطيور ويجعل السحب تعبر إلى أوطان أخرى . ولم يعد هناك مفر .. العصر أصبح عصراً آخر، والناس لم يعودوا كما عرفهم قديما، ولابد أن تحمل رأسه إلى السلطان. ولن يعرف أحد حقيقة ما حدث له أبدا . وعليه أن يستسلم وأن يغفر للجميع حتى للأحدب. فإن أحدا لم يسلمه وهو وحده المسئول – هو الذى أراد وكان له ما أراد تماما – الذين أحبهم لم يريدوا حبه والذين وهبهم عمره سخروا منه.
لكن الأحدب كان يبكى وابنة عمه كانت صادقة فى جزعها عليه؟. نعم.
رأسه تكاد أن تنفجر وهو لا يريد أن يلاحظ أحد من رفاقه المنتشرين على وجه الصحراء لحظة ضعف عارضة تبدو عليه .ز أكثرهم لن يفهم أسباباً، وبعضهم سوف يؤكد أنه كان يتنبأ له منذ البداية بما عرفه عنه الآن فقط.
إن موته الآن لن يضير احداً، وعليه وحده تقع مسئولية جعله ذا مغزى لأطفاله ولمن سوف يأتى بعده. تذكرت كيف أراحت جذور البوص ذلك الحلاق من القلق وأعفته من الفزع أن هو أفشى سر مولاه السلطان الذى كانت له أذنى حمار.
أخذ يزحف فى بطء وهو يبذل جهدا خارقا بسبب جراح جسده الخارج تواً من غرفة التجهيز وهو يدير عينيه بحثا عن بعض شجيرات البوص ليحفر إلى جوارها ثم يهمس إليها بما يملأ صدره مثلما فعل الحلاق.
وخيل إليه أن كل ما مضى من حياته يساوى تلك اللحظة التى عثر فيها على دغل بوص خلف عين الماء يصلح بشكل كاف مبررا لفرحته الأخيرة.
كاد الحلاق يموت بالسكتة القلبية من ثقل السر الذى يركز كالحديد المصهور على صدره لولا أن همس به للجذور والطين الصامت.
وصحيح انه قتل بعدها بحد السيف وقتل معه عدد كبير من الصبية الذين صنعوا صفافير من ذلك البوص أذاعت السر عندما نفخوا فيها. ولكن ماذا يساوى ذلك وقد عرف الناس أيامها وتيقنوا أن لسلطانهم أذنى حمار.
أسرع يحفر بجوار سيقان البوص كمن يحس أنه لم يعد فى العمر بقية وقد تعلقت كل آماله وأحلامه بأطراف أصابعه. وأخذ يهمس للجذور بكل ما يثقل صدره وكلما حفر حفرة مد رقبته وأفرغ فيها ما عذبه من أفكار وأحداث ورؤى. وأخذ يتنقل بسرعة ويحفر بجنون وقد ذابت روحه كلمات واشعاراً يسكبها فى الجذور.. وأخذ يحلم بأول طفل سيأتى إلى هذا المكان ليصنع صفارة من هذه السيقان المقدسة مؤملا أن تذيع عنه ما أودعها من أحلام رحلته العجيبة..
ظن الجلاد الذى كان يراقبه من بعيد أنه يحفر الأرض محاولا الهرب، فأسرع إليه وانتهز فرصة استطالة رقبته داخل الحفرة الأخيرة فأهوى بالبلطة فى قوة …
وتدفق دمه يشخب فى دفقات ملات الحفرة وأخذت تصعد فى بطء خلال عروق البوص الخضراء فتشيع فيها حمرة وردية.
وعندما رفع الجلاد الرأس المقطوع عاليا تأوهت جذور الشعر الكثيف تحت وطأة أصابعه فصاح منتصرا معلنا إنهاء المهمة .. ساعتها لمحت العينان المفتوحتان – من بعيد – جوقة من (المغنيين الشعبيين) مقبلة عليهم فى طريقها للاحتفال بتنصيب السلطان الجديد .. وسمعت الأذنان الداميتان بكل وضوح طلبهم الأذن من الجلاد بالسماح لهم بالحصول على بعض سيقان البوص الوردى ليصنعوا منها نايات جديدة تليق بحفلة التتويج.
وعندما سمح لهم الجلاد، خيل إليه أن ابتسامة عريضة ارتسمت على محيا الرأس المقطوع، الذى كان فى مواجهة وجهه تماماً، وهو يثبته فوق رأس حربته استعدادا لكى يتقدم به الركب الملكى …..
كتبت فى النصف الأول من عام 1973 وتمت فى يناير 1979 – القاهرة
حركة فنية تعنى: فنان، وجمهور، وناقد .. فى حالة من التفاعل المستمر تجعل من الحركة وحدة لها من القيمة بقدر ما يعتمل داخلها من تعدد العناصر، سواء توافقت العناصر فى شكل تنويعات قيمة ما، ام تنافرت فى شكل جدلى يضمن لها الحيوية ويوفر لها التقدم عند كل مرحلة من مراحل الجدل.
والعملية الفنية فى النهاية تهدف إلى استحداث شكل جديد، هو بالضرورة مميز متفرد. ينبع من تفرد الفنان المبدع، وتتبدى عظمته من كون هذا الفنان نتاج حقيقى لمجتمع، يتسع عقله ووجدانه لتناقضاته، ولخريطته الجغرافية والاجتماعية لفنونه ولتاريخه منذ بدأ الإنسان يحبو على أرضه إلى اللحظة التى يبدع فيها علمه، مؤملا استشراف المستقبل، فبغير إطلالة على المستقبل لا يكتمل الشكل، وهدفنا فى النهاية هو الشكل، لا الشكل الفارغ الآلى، بل الشكل العضوى الممتلئ المعبر الذى يطرح اللحظة/ الواقع من خلال الماضى واحتمالات المستقبل.
ومحاولة الوصول إلى مثل هذا الشكل بمثابة محاولة التشبث بالحياة، وظهوره فى مجتمع ما دليل على حيوية هذا المجتمع وتجدده. ومن هنا كانت جسيمة هى: مسئولية إبداع الفن، ومسئولية تلقيه، ومسئولية تناوله تناولا نقديا، لكن علينا ممارسة هذه المسئولية ببساطة وعفوية، كتناولنا لعملية الشهيق والزفير، فالأشجار تطرح ثمارها.. هذا حقها، ونحن نجنى الثمر، وليس فى الطبيعة من قانون يحرم ثمرا.. هذا حقنا، وليرحم الله آدم عليه السلام.
وأهمية الشكل تتضح من خلال تحليل موضوعى دقيق للجانب الفيزيقى من العمل الفنى بغية إلقاء الضوء على التجربة الخيالية الشاملة المصاغة فى حدود هذا الجانب الفيزيقى، الذى يصنع لها إطارا هو إطارها.. شكلها الخاص بما الذى يعطيها ملامحها ويحدد حدودها .. تلك الحدود التى تجعل التجربة على شمولها فى متناول حواسنا.
وما دام الأمر فى النهاية محدد – رغم شموله – بما يمكن لحواسنا أن تدركه من عناصر سمعية أو بصرية، فلا قيمة للألوان أو للخطوط أو للمساحات أو للكتل أو للنغم أو للإيقاع أو للوى أو للكلمات إلا فى حدود ما تثيره فى ذهن المتلقى من إدراك واع لشكل من أشكال تجربة الإنسان مع الزمان أو المكان أو مع شكل مركب من بناء فى الزمان وبناء فى المكان.
وتجربتنا الخالصة مع الزمان تتضح أكثر فى فن الموسيقى، وتجربتنا مع المكان تتضح أكثر ما تتضح فى الفنون المكانية من نحت وتصوير وعمارة، أما تجربتنا مع فنون الكلمة.. تلك الفنون التى قوام بناءها الفيزيقى هو الكلمات، على اعتبار أن الكلمة فى أصل تلقيها عنصر سمعى، فهى تجربة فنية فى ذروة تعقيدها، حيث هى فى مرحلة الإدراك الحسى تجربة مع الزمان ومع المكان فى آن واحد، فبناء المكان – كما ترسمه الكلمات – فى حالة حركة، وما دام هناك حركة فهناك تعامل مع الزمن، والكلمات مقروءة أو مسموعة تتلقى كلمة أثر الأخرى، وفى هذا تتابع زمانى وقع عليه البشر بمختلف الإيقاعات، وصاغ من أحرف الكلمات شتى التآلفات والتنافرات، منها ما نظر له، ومنها ما لم ينظر له، بل ومن الإيقاعات ما كون البحرين واليونانيين القديمين الديثيرامبى والإيامبى اللذين صيغ منهما قسمى الإيقاع الثنائى والثلاثى فى السلم الموسيقى الغربى التقليدى الممتد فى تاريخ الموسيقى حتى نهاية الرومانسية.
والشكل الفنى يصاغ من عناصر فنية، منها المحسوس المباشر، ومنها المدرك حسيا، ولا يختلف الأمر فالمحسوس المباشر يتحول – فى لحظة تلقيه – إلى مدرك حسى فى ذهن المتلقى.
والعناصر الفنية لا تقتصر على الألوان والخطوط والنغمات و .. و .. بل تشمل أيضا الأفكار والذكريات والتوقيعات، ولا قيمة لأى من تلك العناصر بمعزل عن بقية العناصر فى الشكل، فكل العناصر فى تفاعلها وفى تآلفها وفى تنافرها فى شكل متماسك يتفجر عنها. قيم، منها ما يعرف بالقيم الموسيقية، وهى تلك القيمة الجمالية الخالصة النابعة من تفاعل الكثرة فى واحد، هو الشكل الفنى الذى يجعل للعناصر قيمة أكثر من قيمة مجموعها. 3ثم قيم أخرى تعرف بالقيم التمثيلية، وهى القيم التى لها ما يماثلها فى الواقع من شخوص وأحداث وافكار وقضايا.
وما دام هدفنا فى النهاية هو تكامل الشكل الفنى، فعلى القيم المطروحة فى العمل الفتنى بنوعيها (موسيقية وتمثيلية) أن تصنع كيانا واحدا متكاملا لا نقصان فيه ولا زيادة.
وما دمنا نقرر أن الهدف هو تكامل عناصر العمل الفنى فى وحدة من خلال تفاعلها العضوى، أى من خلال تأثير وتأثر كل من عناصرها بالعناصر الأخرى حسب موقع كل عنصر واتجاه تأثيره، فيمكننا أن نشرع فى تحليل الجانب الفيزيقى من العمل من خلال أى من عناصره، أو من خلال أى من قيمة الموسيقية أو التمثيلية التى تتفجر عن تفاعل هذه العناصر.
لكن..
بعد قراءة جادة لرواية: "هكذا تكلمت الأحجار !" تحار فى كيفية تناولها، الرواية كما هى مطروحة عبارة عن أجزاء عشرة متتابعة، وهى بهذا محاكاة لشكل المتتابعة الموسيقية، تلك المعزوفة التى تتكون من عدة أجزاء مختلفة لكل جزء فيها ما يعبر عنه، فى النهاية هناك خط عام يربط بين ما يعبر عنه فى كل الأجزاء، ومثال على هذا متتابعة "صور فى معرض" لـ "موسورجسكى"، و"تكريس الربيع" لـ "سترافنسكى"، فى الأولى يختص كل جزء فى المتتابعة بالتعبير عن صورة فى معرض للصور، والفاصل بين كل جزء وآخر هو: موتيفة تعبر عن سير الرائى لمعرض من صورة لأخرى، وفى المتتابعة الثانية مجموعة من الصور الموسيقية تسجل تتابع طقوس الاحتفال بالربيع فى رقصات متتابعة (كتب للباليه) متصاعدة حتى تصل إلى ذروتها عند الموت رقصا. والإيقاع فى الأولى تقليدى، ثنائى فى جزء وثلاثى فى آخر، أو مضاعفاتهما، والموتيفة التى تفصل بين جزء وآخر ثنائية الإيقاع والإيقاع فى الثانية "تكريس الربيع" غير تقليدى متنوع ومختلف أى غير محدد ومشرب بكثير من الإيقاعات البدائية، ومختار حسب مقتضيات الصورة، أى هو إيقاع الصورة بالفعل.
و "هكذا تكلمت الأحجار!" تقترب من أسلوب وشكل "تكريس الربيع" فهى أجزاء يرتبط كل منهما بالآخر فى سياق روائى، والأجزاء ليست مجرد صور تنفصل كل صورة عن الأخرى ولا يجمع بينها غير تجاورها فى معرض. وإن كان الإيقاع الغالب على أجزاء لا يتسم بالتباين، وذلك نتيجة حتمية للصوت المفرد الذى يرى لنا كل الصفحات، وهو صوت الراوى.
قد يكون هذا أسلوبا فى التناول.. لكن …
بصمة الزمن جلية واضحة، ومحاولة بناءه مؤكدة فى هذا العمل، ومحاولة بناء الزمن هى محاولة تركيبه، محاولة جمع شتاته فى الماضى وفى المستقبل بدافع من اللحظة الحاضرة، أى العملية فى النهاية هى عملية بناء الحاضر (الواقع)، هى محاولة لم الشتات فى بناء، وتجاوز اللحظة خلال البناء إلى الأسطورة التى هى تخليد للصورة فى الزمن أو .. وبشكل آخر محاولة قهر الزمن بإعادة تركيبه فى شكل مطلق وثابت. ووسيلة فن الأدب فى بناء الزمن هى التوقيع عليه بالصور، فالصور – وهى جانب تشكيل المكان فى فن الأدب – ليست غير علامات على الزمن تعطيه ملامحه وتمنحه الثبات وتحتفظ بالتجربة الحياتية فى شكل مركب من شكل زمانى وشكل مكانى وتلك المحاولة جلية واضحة فى الرواية. بل هى جوهرها، والا ما الذى يمكنه أن يتبقى من تجربة ذلك المناضل الذى تعلقت رأسه تبتسم بيد الجلاد بينما تزفه نغمات صفافير البوص الملونة بدمه، ومثل هذا البناء لا يحتمل التجزىء حيث تتركب كل الأزمنة من خلال لحظة خاصة تتمتع بإمكانية النفاذ منها بحرية إلى ما نريد من أزمنة تتجسد فى صور، وتتوقف سرعة سيال الزمن على سرعة تغير الصور أو مقدار الحركة داخل الصورة.
لكن الرواية بتجزئتها إلى هذه الأجزاء تحتم علينا تناولها كمتتابعة، فنقوم بتحليل كل جزء من أجزائها فى محاولة إيجاد ما يربطه ببقية الأجزاء ثم نناقش مدى طواعية هذا الشكل المطروح فى الاحتفاظ بالتجربة فى كيان واحد يتجاوز بها الواقع المعاش إلى الواقع الاسطورى الذى يساهم فى تشكيل وجدان الأمة.
الليلة التى سبقت وصول الجلاد
تلك بداية الرواية، أول ما يطالعنا هو صوت الراوى يحكى عن الشخصية المحورية فى العمل، أو فى الحقيقة الشخصية الوحيدة المبنية بناء نفسيا وفكريا جيداً، وما عداها من الشخوص فى خدمة بناء هذا النموذج الذى يحكى عنه الراوى.
(… كان يحاول جاهدا إقناع نفسه، أن كل ما مر به حدث فى عصر آخر .. لكن عقله كان عاجزا فى اختراق ركام الذكريات والسنين …).
الراوى فى هذه الفقرة يقدر لنا أن الشخصية فى محاولة لاستعادة زمن آخر، وهى تستعيدة بصعوبة وعناء:
(.. عجز العقل عن اختراق ركام الذكريات والسنين .. ).
إلا أن الشخصية لديها حد أدنى من القدرة على استعادة ذلك الزمن، تتمثل هذه القدرة فى النجاح فى التشبث (بوهم بارق …)، ذلك الوهم كان البداية، ووصفه بأنه (…بارق) فى موضعه تماماً، فما تستعيده الذاكرة يبدأ ببرق خاطف يكشف عن جزئية من الصورة ثم تتكفل المخيلة ببناء بقية الصورة على أساس موقع الجزئية، واحتمالات ارتباطها ببقية الجزئيات فى الصورة.
وحين سقط على الذاكرة ذلك (البرق الواهم) أو (الوهم البارق) أضاء فيها بقعة هامة، هى فى الحقيقة البذرة التى نمت عنها كل الأحداث التى نستشفها من خلال رؤى شتى تنتمى إلى الواقع الداخلى للشخصية ..تلك البذرة هى بذرة التمرد، وضعتها القبرة فى قلب الطفل:
(ذات صباح قديم، سمع "قبرة" تحرض قلب طفل على التمرد …).
وكان التمرد عل الواقع/ الزمان:
(… أنت تتصور أن الحاضر باق إلى الأبد….).
وكان التمرد على الواقع/ المكان:
(… العالم أحلى بكثير من الخرابة المغمورة بضوء القمر، وأربح من حوش "القواسم" المزدحم بالأطفال المرضى ……).
ويهتز (… إيمان الفتى بقدرة أشجار التوت)، ويتأمل بقلب منشق بنبت بذرة التمرد التى زرعتها القبرة (… ما حوله من عجز…)، ويستجمع قواه فى المساء ليعلن تمرده لأبيه العجوز فى لحظة ممارسته العجوز لبؤس واقعة:
(.. وقال لأبيه العجوز الذى كان مشغولا بإطعام بقرته الوحيدة الهزيلة وهو يصارع آهة ألم غير منظورة:
لم أعد أطيق كل هذا القدر من الدناءة … سأرحل بالتأكيد).
ومضى يحلم، ويبشر مغنيا فى:
(.. المقاهى ذات المقاعد الحجرية.. اشعاراً عن طريق الفجر المضيئة ..)
لكنه يغنى للغارقين مثل أبيه فى:
(.. ظلام لزج من ليل القرية الكافر الذى لا يرحم ولا يحرر أحدا من هموم التفكير فى اليوم المضنى القادم…).
وكان يغرق معهم فى سحب الدخان الرخيص، لكنه يتسلل طاويا قلبه الصغير على نبتة التمرد التى زرعتها القبرة، يتسلل إلى الصبايا والأطفال، يحلم ويبشر ويغنى:
(.. الكلمات الغامضة ذات الجرس الأخضر…).
وفى فقرة يوحى وضعها من الصفحة بتميز صوتها (غير انه نفس الصوت الذى يحكى لنا منذ البداية) يسرد الراوى علاقة الشخصية بالناس والأشياء، ويقرر فيها أيضا استجابة الجميع له وقدرته على قيادتهم صغاراً (.. لغزو جنينة أبو الحسن..)، أو دفعهم صبيانا (… لعبور البحر الصغير إلى …)، أو تحريضهم رجالا على (… اسقاط العمدة و …)، ومع ذلك يقرر أن: (… الأبواب المغلقة لم تكن سمحت بعد بإمكانية التجاوز …) ذلك أنه لم يكن مدركا لـ: (… سر قوة الكلمات التى تملك طاقة الحركة والولوج …) رغم نجاحه فى تجميعهم بكل أعمارهم قائدا ودافعا ومحرضا .. تناقض غريب !! لابدان يسفر عن جديد فى النهاية.
وحين كان الليل مخيفا لم يجد الأمان سوى فى أعين الأصدقاء، وهو يحس بوخز الندم لأنه أسلم لهم نفسه بسهولة فنام (…تاركا نجمته الصديقة تغيب عن المربع الحديدى…) وكأنه فى كل ما مضى من أول الرواية يحتمى من واقعه المرير فى السجن بالنجمة التى:
(… منذ زمان بعيد … بعيد تعود أن يراها تسبح كل ليلة فى نفس المكان وفى نفس الموعد..).
كما كان يحتمى فى عيون الأصدقاء، فهو لم يكن يجد الأمان إلا:
(… بالنظر فى عيون أصدقاء الضاحكة الذابلة، ….).
ورغم تلاشى النجمة ( .. فى الأبعاد اللانهائية.)، إلا أنها تنقله بشكل من أشكال التداعى إلى يوم دعاها إلى منزله، فاستجابت حتى النهاية التى لم تصل إلى ذروتها لاقتحامها بـ:
(.. صوت الأقدام الغجرية والأحذية الثقيلة…).
وعند هذا ينتهى هذا القسم من التداعى بإسراعه:
(.. مخفيا وجه حياته المشوة تحت الغطاء الميرى الممزق – وينتخب …).
ليبدأ قسم آخر من التداعى بـ:
(… قذفت به أمواج الذكريات …).
فى مكان آخر غير الزنزانة بنافذتها ذات المربع الحديدى، وفى زمن آخر – يبدو أنه لا حق لزمن التداعيات السابقة – غير الليل بنجمته المواسية والمفجرة للذكريات والتداعيات والحلم.
الزمان الآن هو النهار، والمكان فوق حبات الرمال الباردة بين أشجار الخروع وشجيرات السيسبان، وظلال رفاقه ذوى الأيدى المرفوعة فوق الرأس، والنخيل القزمى المتناثر منفيا فى الصحراء ، فى هذا الزمان وهذا المكان:
(.. قذفت به أمواج الذكريات الكئيبة …).
فتذكر أنها:
(… هجرته بإرادتها الكاملة ومضت خلف حلمها القديم بالثوب الأبيض والتراتيل …).
ذلك لـ:
(… تحترق فى حمام البيت الآيل للسقوط، وسط بخار الماء الساخن والصابون الرخيص وهى تنادى عليه …).
فانسابت دموعه، وانتقلت به ذكرياته من خلال النخيل القزمى فى الصحراء إلى نخلة عمه (الحيانية) التى تنقله إلى ابنة عمه الفائرة ذات الشعر الخشن والعين الحولاء الشبقة والصدر البرى والعرق النفاذ واللهاث الباكى والآهات المتألمة ودقات القلب المتوترة… ثم تتركه ولديه احساس أنها لم ترتو بعد وينتابه الخجل والإحساس بالفضل لعدم ارواءها.
وبانتهاء هذه الفقرة يكون قد استعاد واقعتين الأولى واقعة تركها له، والثانية ذكرى عدم قدرته على ارواء ابنة عمه الفائرة، وتعد كل واقعة تنويعة على الأخرى، وكلا الواقعتين تلعبان على حبل الفشل والإحباط، مع اختلاف العلة فى كل منهما، ففى الأولى كان لعجزه عن تحقيق حلمها القديم بالثوب الأبيض والتراتيل، وهى تناديه، وفى الثانية، مع ابنة عمه، كان عجزه لصغر سنه ألا أنها تعفو عنه آمرة أن يساعدها فى سقى البهائم ونقل السباخ، والمرأتان الأولى وابنة عمه كانتا تحلمان بالارتواء، وكان فشله الحقيقى فى عجزه عن تحقيق هذا الارتواء.
وننتقل إلى الفقرة التالية، وفى بدايتها:
(يصعد مرة أخرى مكررا محاولته .. الدائبة إلى الولوج من النافذة الوحيدة ذات القضبان.. يسقط ويعاود التسلق .. وأدمت الحجارة أظافره، وخذله الجوع…).
أى انه بعد استعادة واقعتين للفشل فى الفقرة السابقة نجده بعدهما مباشرة – وفى بداية هذه الفقرة – يكرر محاولة الصعود للولوج من النافذة الوحيدة ذات القضبان غير أنه:
(… ارتمى ضعيفا عاجزا، وتكوم تحت الغطاء…).
دافنا عينه فى:
(… أحشاء الفراغ المظلم الضيق المحصور بين ساقيه و…).
وينـــام:
(… ارتعشت أجفانه المبللة ثم هدأت متعبة…..).
وحين ينام يكون الحلم، الحلم برائحة القواقع والأعشاب الجافة والجميز الباط والزيت المقدوح وبدموع البنت (نجاة) إزاء اعترافه بحبه لها، والرغبة فى انتشالها من واقع مرير، وتحديدات وتشكيك أخته فى قدرته على هذا، ثم هربه من الجوارى الروميات اللائى يلقيتن بظلهن على المرأتين التى فشل فى تجربته معهما فى الفقرة السابقة، وكان هربه من الجوارى الروميات إلى الصبايا الكادحات يطارحهن الغرام خلف كرسى الوالى وتحت سلم قصر الخليفة وفى الجرن و…. ويختلط كل هذا بـ:
(.. صرخات المهزومين فى الشعاب الملتهبة حول "البردويل" و "عيون موسى" مختلطة برائحة المحاصيل المتعفنة والمياه الراكدة والبول الدموى ..). ثم تطارده الغولة . تستميله.. يميل .. تحيل بحارة سفينته إلى خنازير، وتملاها بالجرذان، فيصرخ، يأتى إليه الحراس الصلعاء .. يطاردونه .. ينس فردة حذائه و.. يعاقب ويضرب ضربا مبرحا.
فانتازيا الرعب، غير أنها مرتبة بعناية فائقة تتنافى مع منطق الحلم خاصة إذا كان تحت وخز:
(… الجلد القديم المحترق فوق ظهره وأكتافه .. رغم أنه لم يعد يحس ألم عصى الخيزران الرفيعة أو السياط…).
ويحل فى نهاية هذا الجزء:
(… مع صمته الصمت على العالم …)
و……
(… لم يعد يسمع من مكمنه سوى صوت طحن ضلوع بشرية وانسحاق فظلم أثرية ونشيش شواء لحم حى. وصرير أبواب عتيقة، يفضى الواحد منها للآخر ليفسح المدى الرنين سلاسل ذى صد عميق الأبعاد يبتعد فى رتابة حزينة …).
تلك نهاية ممتدة إلى ما لا نهاية، يمهد فيها الصمت العميق لرنين سلاسل ذى صدى عميق يبتعد فى رتابة لم يكن هناك داع لوصفها بـ (.. حزينة ..) فالصورة الصوتية والمكانية تنطوى على ما هو أعمق وأشمل من الحزن كثيرا.
الصباح الذى حل قبل بدء الرحيل
كان هذا الصباح هو:
(… يوم جاءوا به إلى هذه المدينة العجيبة ذات الأسوار العالية ..). وكان فى هذا الصباح عاريا تماما، تلقى ملابسه إلى الأب قطعة .. قطعة، والأب يحادثه من خلال دموعه حديثا يبعد كثيراً عن لغة الأب المتوقعة، لكننا نتعرف فى الحديث على الصوت الواحد .. صوت الراوى الذى يحكى لنا منذ البداية، فجاءت حديث الأب ممنطقا، مرتبا، ذكيا، رصينا، حافلا بالثقافة التاريخية، مليئا التشبيهات والاستعارات البليغة، وهذا كله لا يمكن أن يشكل حديث مثل الأب الفلاح البسيط الكادح:
(.. نحن الكوبرى الأزلى الذى يعبر فوقه الملوك والغزاة وتمر فوقه العصور..).
(… لا نحلم أكثر من المعقول فأحلامنا مشانقنا….).
(.. الكوبرى يا بنى لا يتمرد على الأقدام …).
وإن كان يحمل وجهة نظر مثل هذا الفلاح التقليدية إلى الأمور، وبالتالى فهى وجهة نظر نمطية:
(.. الوالى اطيب خلق الله….) (.. ظلمت اخوتك البنات من سيتقدم اليهن ..) (… يا ليتنى قد ربيت بهيمة ….).
ويلاحظ أن التركيب اللغوى فى الجملة الأخيرة – وفى غيرها – أعقد من البساطة المفروضة فى حديث الأب، ولنعود إلى بساطة لغته فى هذه الجملة علينا أن نحذف (يا .. كنت قد …) لتصبح (ليتنى ربيت بهيمة) وهذا ما يؤكد لن أنه صوت الراوى حتى وهو يعبر عن وجهة النظر النمطية لمثل هذا الأب.
وتنتهى الفقرة الأولى بانتهاء حديث الأب لابنه، وتطالعنا الفقرة التالية بسرد طيب حساس للموقف بين الأب والابن، ثم وصف لرحلة الأب، وللأحاديث التى دارت بينه وغيره من الشر فى الحافلة، والتى دارت بينه وبين نفسه، لكنه سرعان ما يترك الراوى الحديث للأدب، وهذه المرة يأتى حديثه بسيطا آسيانا مقنعا يلونه الندم إلى حد اتهام نفسه بالخيانة:
(… فأنا عندما أخذته إليهم مختاراً رأيت فى عيونه نظرة عرفان…).
لكن يبدو أن الراوى مصر على اقحام نفسه فى كل شىء، فيطل برأسه خلال حديث الأب:
(… أقسم لكم جميعا أن رئيس الحرس التركى ضحك فى وجهى وربت على كتفى ووعدنى أن يعتبره فى مهمة رسمية بلا بدل سفر بسبب نفاذ البند …).
وفى آخر فقرات هذا الجزء يروى لنا الراوى كيف صعد الأب العجوز سلم منزله، وذكريات مع طفولة ابنه على السلم، ثم الموقف بينه وبين زوجته معروضا بمنتهى الدقة والطبيعية والحساسية، وينتهى مع انتهاء الفصل بهذه الجملة:
(.. وارتمى على صدرها منتجا كطفل يرجو المغفرة عندما بوغت مبللا ملابسه صباح العيد …).
وكان يمكن أن ينتهى هذا الجزء بعد كلمة (منتخبا)، لكن أحداً لا يعرف لم أصر الراوى على إعطاء تشبيها للموقف (…. كطفل يرجو .. الخ) فحد من إيحاءاته ودلالاته، وشكل زيادة وترهل لا داعى تلها، كما أنه نسب شيئا فى العمل لشىء خارجه من خلال عملية التشبيه بشىء خارج عن الموضوع، وهذا يؤدى إلى التشكيك من قدرة البناء على الاكتفاء والتكامل.
ومن خلال سرد الراوى لحوار الأب مع الناس فى الحافلة، وكلهم من الكادحين – عدا واحد تبدو عليه خيلاء النعمة لا يلتفت إلى حديثه الأب – وتتوالى عدة صور تعد كل منها تنويعة على الأخرى إلا أنها تضيف إلى سابقتها جديداً.
الأولى للأوراق ذات الطلاسم والرموز الدالة إلى طريق مدينة النحاس والبللور، والمحاولة هنا من خلال الخرافة.
والثانية لشاب مقطوع أصابع اليد يحكى عن الاختيار الذى يكلف صاحبه قطع الأصابع، ويكلف البعض الآخر رجولتهم، وفى فقدان البعض الآخر لرجولتهم إعادة لصورة الشاب لكنه فى هذه المرة مبتور الرجولة لا الأصابع. تغير طفيف فى الصورة الأولى أعطانا الثانية، والمحاولة هنا من خلال إرادة الاختيار.
والثالثة لأسوار عليها رؤوس فرسان مقطوعة من جدر الرقبة، والمحاولة هنا من خلال فعل إيجابى كان عقابه قطع الرقبة.
والرابعة للأب يبحث أسفل الأسوار عن السعفة الخضراء التى تفتح السبيل خلال الجدار، لكن كفه لم تلمس بسبب الظلام سوى:
(… بقايا حيوانات ميتة وبشر محتضرون ونفايات عضوية نتنة …).
وهذه الصورة الرابعة تلم شمل سابقاتها من الصور فى بانوراما حافلة بالإصرار على المحاولة رغم الإحساس العميق بالضعف، والإصرار على المحاولة فى هذه البانوراما يحتد فى الماضى، ويتدرج – من خلال حركة المرئيات داخلها – عبر زمن بعيد لأن ما تحت السور:
(بقايا حيوانات ميتة، وبشر يحتضرون ونفايات عضوية نتنة) أى بقايا حافلة بالجسد البشرى فى مراحل مختلفة من الحياة إلى الموت، إلى بعد الموت عند التحلل إلى نفايات عضوية نتنة، بالإضافة إلى استدعائها فى المخيلة للجسد العارى الــ:
(…… ممزق …… محترق الجلد فى أكثر من مكان بسبب بقايا السجائر وكان دامى الوجه ..).
وكان الأب خلال كل هذا يحتضن كومة ثياب هذا الجسد الذى يعيد مرحلة من مراحل هذا التحلل القابع على جانبى الأسوار.
المساء الذى حل بعد بدء الرحيل
يبدأ هذا الجزء بسرد إجراءات الحبس، ولأن الراوى ما زال يحكى لنا، يتدخل فى كل شىء دون أن يدخل فى علاقة مع أى عنصر من عناصر العمل، فهو غير محايد أبداً، كما كان يجب أن يكون كمجرد وسيلة فنية للعرض لا علاقة لها بشىء آخر، فحيادة يجعله ليس بجزء زائد عن العمل يجب استئصاله (وما يستتبع ذلك من استئصال العمل كله لأنه بأمله معروضا بصوته)، وإنما يجعله كالعامل المساعد يؤدى وظيفته فى التفاعل ويخرج من التفاعل كما هو، ومادام لم يتأثر فهو بالضرورة لم يتأثر لأن التفاعل تفاعل عضوى، أى أن وجوده كعدمه بالإضافة إلى تأديته لوظيفته الفنية، كما هو مطروح فى معظم الأعمال التقليدية التى ينبنى زمنها وفقا لبناء الزمن الواقعى فى تسلسله وأهمية مبدأ العلة فيه.
ويطالعنا فى بداية هذا الجزء دليل على عدم حياد الراوى فى الفقرة التى تبدأ بـ:
(ونبهت ضحكات الأطفال مشاعر الوافد الجديد وأيقظت بقلبه حلما قديما حبيبا إلى قلبه فدار بعينيه يائسا يبحث عنهم – إذا كان يحلم طوال عمره بأطفال يضحكون من القلب).
يقصد بالأطفال المساجين.. هكذا يسميهم، ويعد هذا تدخل منه، والغير معقول أبدا أن يبحث السجين فى ضحكات المساجين عن ضحكة طفل، ليس هذا فقط بل ومن القلب!.. تلك الفقرة غير المنطقية سببها تدخل الراوى.. الذى عاد فى نهايته يقول:
(التفت إلى الحارس مستئذنا لكنه كان مشغولا عنه بالتهام فخذه إنسان آخر …).
عملية التهام الحارس لفخذة إنسان لا مبرر لها على المستوى الواقعى، أو على المستوى الفنى، لأن الجزء من بدايته مسرودا سردا واقعيا لا مجال فيه لفانتازيا أو مبالغة، فعملية التهام فخذة إنسان ليست فى النهاية سوى تشبيه - قد يتسم أولا بالمبالغة – لموقف الحارس من سجين آخر، والتشبيه بالإضافة إلى أنه ممجوج كأسلوب قصصى لأنه كما سبق القول ينسب شيئا فى العمل إلى شىء خارج العمل، بالإضافة إلى هذا يعد تدخلا من هذا الراوى فى سياق الحدث.
وهناك مثل آخر لأسلوب التشبيه فى وصفه لحجرة الحبس:
(… وجسد له الصمت الثقيل ثخانة وصلابة الجدران، وملأته الرطوبة والعفونة التى تنضح من مسام الصخر الجيرى إحساسا عميقا بالمسافات والأزمنة وكأنما هذه الحجرة الضيقة قد انفصلت عن العالم الملموس كفقاعة حجرية سقطت فى القضاء اللانهائى،،..).
فى الجملة الأولى نجد الصمت الثقيل يجسد ثخانة وصلابة الجدران، كما تجسد ثخانة وصلابة الجدران ذلك الصمت بل وتعطيه وزنا (صمت ثقيل)، وهذا ليس بمطروح فى الجملة إنما توحى به الجملة إيحاء جليا خاصة من خلال إعطاء الصمت صفة (الثقيل) التى هى صفة أكثر انطباقا وانسجاما مع الجدران، وفى الجملة الثانية نجد الرطوبة والعفونة التى تنضح من – ليس الجدران هذه المرة – بل الصخر، واستخدام لفظة صخر – بديلا للجدران فى الجملة الأولى - يعطى درجة جديدة من درجات إحساس السجين بالجدران، فلم تعد الجدران جدرانا، بل استحالت من خلال إحساسه بها إلى صخر، هذا الصخر ينصح رطوبة، وطالما هناك رطوبة فهناك مع الزمن عفونة، ومادام هناك عفونة فهناك قديم قديم… قديم .. عتيق يمكن أن يولد إحساسا مؤكدا ببعد الزمان والمكان من خلال (الصورة/العلامة) على الزمان، وتصير الصورة فى جملتها ترديدة لصورة العفن حول الأسوار فى الجزء السابق.
هذا شىء طيب وأسلوب بليغ وصل بنا والسجين إلى الإحساس الشامل والعميق بالمكان كتوقيعات، على الزمان، ودخل بالصورة فى علاقة جمالية مع صورة سابقة لها، دون ذلك التشبيه:
(… وكأنما هذه الحجرة قد انفصلت … الخ).
وبعد ذلك يحكى لنا الراوى ضرب الحارس للسجين فى غرفة السجن:
(…… وانهال عليه حتى كومه أسفل الجدار ثم جذبه بعنف إلى وسط الحلبة فانطلقت الجوقة تدور حوله فى خطوات منتظمة بطيئة وهم يرددون اناشيد وثنية غامضة جعلت العجائز عند طرف المدرجات البعيدة يمسحن دموعهن تأثراً ويرسمن علامة الصليب بينما علت هتافات المزدحمين فى الجانب الآخر من المقصورة الإمبراطورية…).
وهو بهذا شبه غرفة السجن بملعب رومانى يعج بالعجائز ورجال الحكم و… و… كل هذا دون مبرر فنى، ويضحى الأمر فى النهاية – فى غياب المبرر الفنى – مجرد تشبيه، فهو وإن كان تشبيها جيدا إلا أننا يمكن حذفه بسهولة لنكون أكثر تركيزا دون فقدان للدلالة وفى نهاية هذا الجزء بعد أن صار وحيداً:
(… اكتشف أن وجه نجمته يطل لأول مرة من بين القضبان فابتسم فى وهن. ولكن الفرح غسل قلبه لما تبين أن نظرتها الرقيقة الحانية لا تحمل أى معنى من معانى الاحتقار..).
ألم يكن كافيا أن: (يبتسم فى وهن)، أما وأن يغسل الفرح قلبه فى هذه اللحظة، ولسبب غريب أن للنجمة نظرة رقيقة وأيضا حانية و… ولا تحتقره !، فهذا غير منطقى.
ويعد هذا الجزء صورة بانورامية لإجراءات تسكين السجين فى زنزانته معروضة فى تماسك، وبتركيز، ومن خلال جزئيات تشكيلية يتحول العنصر المحسوس فيها (الكلمات) بسهولة وتلقائية إلى مدرك حى (خطوط وكتل وألوان و…)، مثل صورة الممر والجدران والأحدب و.. بقية الصور التى لقوة الطبع فيها لا تحتاج إلى إلقاء الضوء عليها.
وهذا الجزء لا يضيف شيئا إلى حركة الحكى فى العمل، بل هو يعد إبطاء لجريان زمن الحدث لثبات الصورة البانورامية ككل رغم تلك الحركة الفوارة داخلها.
اليوم الذى جرت فيه الواقعة:
يسرد الراوى علاقة (الشخصية) بالفتاة، وتطور هذه العلاقة، مطعما سرده، ومجملا أحداثه بمويتفات أسطورية ودينية لا يمكن أن يكون لها من دلالة أكثر من التشبيه لأن تلك الموتيفات لا تشكل خيطاً فى نسيج العمل ككل، وهذا يؤكد عدم حياد الراوى بالإضافة إلى عدم فاعليته.
ويأتى حديث المحقق منسجما مع شخصيته لولا نهايته:
(… وكثيرا ما فقدت أوراق وأوراق منذ عرف المصريون المقابر…).
التى نتعرف فيها على صوت الراوى الذى لا يكتفى بها، بل ويضيف إليها فقرة كاملة تعد تعقيب عليها:
(وكم ابتلعت كثبان الرمل المتحركة أمما وقبائل .. وبشموا من عطف السلطان).
تلك فقرة لا تضيف شيئا، ولنا أن نستأذن فى حذفها من اجل سياق أكثر تماسكا.
ويضيف هذا الجزء إلى عنصر الحكى فى العمل، ففيه كيف تعرف عليها، وكيف تم القبض عليه، وكان الاهتمام فى هذا الجزء بدلالة الأحداث، ورسم الصور الدالة خاصة تلك التى تتداعى فى الحلم بينما:
(من جميع الجهات زحفت نحوه ملايين الحشرات المفترسة).
غير أن اعتراضنا على هذه الصور يخص أسلوب عرضها فما هكذا تتداعى الصور فى الذهن سواء كان فى حالة يقظة أو حلم.
اليوم الذى عاد فيه سرا إلى القرية.
لو بحنا عن بداية حقيقية لهذا الجزء سنجدها عند:
(وحين استيقظ كان العالم يومها ما زال نظيفا …).
أم الأسطر السابقة على هذا، والتى يبدأ بها الجزء، فهى مقدمة لا ضرورة لها، وقد قمنا – ويمكن لمن يريد أن يقوم – بتجربة حذفها فلم نخسر شيئا.
ومن ممكنه فى رحم النافذة الحجرية سرح بخياله إلى القرية، وجال فى حواريها، ووقف خلف أبوابها المغلقة، وتعامل مع أهلها، وأنكره الجميع، وفاضت نفسه بقصيدة جيدة، لا نقصد جودتها فى حد ذاتها، بل نقصد جودتها كنتاج منطقى لسرعة خياله فى دروب القرية، وأيضا كمقدمة، ونقله لتجوال خياله فى دروب الأسطورة، والتاريخ، بشكل مركز، موحى، رقيق ودقيق، ليس فقط معبرا عن الواقع بل متجاوزاً له، ويسلمنا تجوال خياله إلى المرأة ذات الفخذين التى تفوح منها رائحة الروث الدافئ والقشدة، وكان الموقف معها بمثابة فانتازيا للجنس، وللأرض، وللأمومة، وللحنان، ولليتم، وللإخفاق، وللرى، وللعطش، وللجوع، بالإضافة إلى قيمة العجز التى تذكرنا بموقفه مع ابنة عمه عند مدود العنزة.
(… أنت لم تفقس بعد من البيضة وتطالبنى بحقوق رجل !!).
وفى النهاية يحس وخز صدأ حديد القضبان على النافذة، ويشعر بخدر شديد فى أطرافه بسبب جلسته المتعبة فى رحم النافذة، وقبل أن يفكر فى النزول من النافذة ينزله منها الحراس بطريقتهم.
جزء طيب مكتوب بعناية، لكن السؤال الهام هو حول وظيفته فى العمل ككل وهناك عودة – على المستوى الواقعى – إلى القرية فى الجزء (اليوم الذى انكره فيه أهل القرية)، وفى الجزئين يتعرض لإنكار أهل قريته بصور شتى ولأسباب متباينة، ويمكن اعتبار كل من الجزءين تنويعة على الآخر، ولو سألنا عن مبرر لموقع الجزء (اليوم الذى انكره فيه اهل القرية) لوجدناه يجئ كتسلسل حدثى للجزء الذى يسبقه والذى يفصل بين الجزئين الخاصين بالعودة إلى القرية، فنهاية الفصل السابق عليه موت الام لحظة ميلاده، والجزء التالى له الخاص بالعودة إلى القرية يبدأ وسط الملابس السوداء.
الليلة التى بدأ بها الرحيل
فاصل سردى عن واقعة القبض عليه، والخيانة غير المؤكدة للفتاة، ثم موقف الناس من القبض عليه الذى لا يختلف عن موقف أهل قريته منه حين عاد سرا بخياله على القرية، ثم عرض لوسائل التحقيق معه، وأخيراً ينام ليلعب لنا الراوى على أحلامه، هذه المرة حلم بعملية ولادته وموت الأم أثناء ذلك، وما يستتبعه فى الجزء التالى من صعوده الدرج وسط الملابس السوداء.
ولنا على هذا الجزء نفس الملاحظات – على كثير من الأجزاء – حول تدخل الراوى فى الحديث دون أن يتفاعل معه، محددا بذلك للرؤى عارضا لها بصورته، وخياله الخاصين.
اليوم الذى أنكره فيه أهل القرية:
يواصل فى هذا الجزء الحلم الذى بدأه فى نهاية الجزء السابق له، يصعد السلم بين النسوة لابسى السواد، يتزاحم عليه الجميع شاكين العمدة والسلطة والظلم، ثم يجئ صوت الأم صارخا فيه أن يبتعد عنهم، وحديث الأم طبيعى وطيب جداً.
وعقب حديث الأم فقرة شعرية تعلق على الموقف رغم أن الموقف لا يحتاج إلى تعليق، ,أن احتاج فمعنى هذا أنه لا يعنى دلالة، وفى نهاية الفقرة الشعرية سطرين:
(… وأبحر معلونا فى كتب الثورة والرحلات.
أضل الله مراكبه فى بحر الظلمات……)
ولأن الفقرة الشعرية تنتهى ببحر الظلمات فقد جر هذا إلى الفقرة التالية، وهى فقرة معروضة بأسلوب الأسطورة، وبصرف النظر عن مصدرها، وعن مدى مطابقة ما توحى به من معان لم تتعرض له الرواية، إلا أننى لم أستطع تبيان صلتها بما قبلها ولا بما بعدها، وكأنها مقطوعة من مكان آخر هو مكانها، لتسكن فى هذا الموقع من البناء الذى ليس بموضعها، بدليل أننا لو حذفناها مع الفقرة الشعرية السابقة عليها لن يتأثر بناء الرواية بشكل عام، بل يكون قد تخفف من بعض ما يثقل عليه ويجب حذفه، وفى محاولة للربط المتعمد تجئ الفقرة التالية لتلك الفقرة الأسطورية وتبدأ بـ:
(ألقى الموج به وحيدا فوق تلك الجزيرة الوارفة الظل … الخ).
أى موج .. وأى جزيرة .. من اين نبعث مثل هذه الرؤى ؟! ليس لتداعى الصور منطق، بالتأكيد لتداعى الصور منطقة، ذلك المنطق الذى يعد بديلا لمبدأ العلة فى تتالى الزمن الفيزيقى، ثم حديث فى نفس الفقرة عن جثة الفتاة، وإحساس بالشك فى أنها لم تخنه:
(… لمحها تنظر إليه وأكد لنفسه انه يرى فى عيونها نظرة لا توحى بأى معنى شرير).
وينتهى الحلم الذى بدأ فى نهاية الجزء السابق:
(وأفاق على صوت ضحكة ساخرة ماكرة … كانت رأس الأحدث تحملق فيه .. وأمره أن يستعد للزيارة…).
ورؤى هذا الحلم، محتوى هذا الجزء، فى حد ذاتها، شديدة الروعة والمهارة عدا ما اقترحنا حذفه.
ولا نعرف سببا لتجزئة رؤى الحلم على هذا الجزء، ونهاية الجزء السابق له.
الصباح الذى تكلمت فيه الأوراق الرسمية.
هو جزء خاص بالتحقيق مع السجين، والتحقيق فى هذه الرواية مرادف للتعذيب، ومن ثم كان هروبه من بشاعة التعذيب إلى خيالات لاهثة تتجسد فى صور من التاريخ كمعادل لما يحدث فى الواقع، وفى نفس الوقت مبررا له، ومتتبعا لجذوره، كل هذا من خلال تعاطف النزلاء، وفى النهاية عودة إلى المحقق بسترته الذهبية بفقرة واقعية فى نهاية الجزء، يأمر فيها المحقق بوضعه فى زنزانته حتى صدور أوامر جديدة من السلطان الجديد الذى حل مكان السلطان القديم الذى مات، وكان موته وتكريس خليفته مجسداً فى فانتازيا تاريخية كان يلوذ بها خياله من وطأة التعذيب.
وهذا الجزء يعطى معلومة هامة تضيف جديدا إلى عنصر الحكى، هذه المعلومة تتمثل فى إحلال سلطان جديد وما يتبع ذلك من ترقب لما يمكن أن يحدث.
المساء الذى قاربت فيه الرحلة الأولى على الانتهاء
يبدأ هذا الجزء بنفس الرؤى الفانتازية لكن دون مبرر فنى، فالصوت مازال صوت الراوى، غير أن الصور – رغم غياب مبررها – معبرة عن الواقع بل مطابقة له تماما من وجهة نظر ما… نزلاء السجن نكل بهم بوحشية، وجثة الفتاة مسجاة على صندوق، ورجل يصعد من بئر مازوت يحتضنها، ويشغل فيها النار، ويدور حولها بخطى عسكرية منشدا النشيد القومى، ويصبح الخروج من السجن سهلا بعد تغير الظروف، فيخرج لتستقبله الشوارع بلا ترحيب، لكنه مفعم الأمل، يرقب لقاء المرأة ذات الفخذين الهائلين، ورغبة فى زواج البنت ذات الضفيرة لينقذها من قسوة أمها وجنون أبيها، وسيتأكد من: (توزيع لبن المعونة على العجائز رغم أنف العمدة) و(… يعيد لوالدعه بقرته واحترامه …) و (………) معادلات كثيرة لمواصلة الكفاح، و………
(تعثر فى أحد الأحجار الناتئة…).
وتعثره فى أحد الأحجار الناتئة تمهيد طيب لصورة لقاءه مع شخوص سبق أن تعامل معها… فلاحظ أنها … كلها … قد تغيرت، تحولت المرأة ذات الفخذين إلى مومس، والدكاكين إلى بوتيكات، وابنة عمه تلقاه ولا تأخذ إلى مدود العنزة بل توصية بالابتعاد، ولاحظ أن العسكر تغيرت هيئتهم، وصاروا مدنيون يؤدون كل الأعمال، واختلطوا بالناس بحيث لا يمكن تمييزهم، وكلها معادلات لتغيرات طرأت فى عهد علقت فيه صورة السلطان الجديد يرفع صولجانا ذهبيا، وتلى لقطة السلطان بصلوجانه مباشرة مقابلة للأحدب الذى يعامله بعطف، عارضا مساعدته إلى أن يسلمه مرة أخرى للشرطة وهو خجل باك عليه، والأحدب هو ذلك العنصر الذى لم يتغير فى الصورة، يكفى هذا مبررا لكل ما حدث من تغيرات، ثم بودون مبرر فنى تعرض أسطورة عفان وحاسب كريم الدين كتنويعة على خيانة الأحدب، ولنصل منها إلى حكمه:
(- حتى ماء الحياة لا يبرر الخيانة).
وينسحق الأحدب تحت أقدم الحرس الجدد تحقيقا لنبوءة الحية، وفى النهاية يطالعه وجه محقق جديد أكثر خبرة، ونزلاء جدد ليس على وجههم أى أثر للتعاطف.
وبهذا الجزء صورة فريدة… تصلح ككود الكل هذا الجزء .. هذه الصورة هى: (جثة الفتاة مسجاة عارية على صندوق .. يطلع رجل من بئر مازوت .. يحتضنها ويبكى، ثم يشعل فيها النيران و …).
اللحظة التى أنهى فيها الجلاد مهمته
آخر أجزاء الرواية .. يطالعنا بنفس الحس الذى بدأ به:
(… يحاول جاهداً إقناع نفسه أن كل ما مر به حدث فى عصر آخر ….).
وهى نفس الجملة فى بداية الجزء الأول، لكن بين الجملتين كان التغير الذى طرأ عليه:
(… لكن الأيام تسربت نم بين أصابعه الدامية ولم يستطع استرجاع حديث القبرة أو مشهد البقرة …).
تلك البقرة التى كان يود أو يعيدها لأبيه ليرد إليه كرامته. وهى نفسها التى كان الأب يطعمها حين أعلن تمرده فى مواجهته، وسرعان ما يعرض علينا علة هذا التغير: فالجلاد له بالمرصاد، بالإضافة إلى أن:
(… العصر أصبح عصرا آخر، والناس لم يعودوا كما عرفهم قديما، ولابد أن تحمل رأسه إلى السلطان، ولن يعرف أحد حقيقة ما حدث له أبدأ …).
وعليه فلا مفر من:
(…… أن يستسلم وأن يغفر للجميع حتى الأحدث. فإن أحداً لم يسلمه وهو وحده المسئول هو الذى أراد وكان له ما أراد تماما…).
وبناء على هذه المسئولية كانت هناك مسئولية أن يجعل كل ما حدث فى إطار:
(… إقناع نفسه أن كل ما مر به حدث فى عصر آخر …)، يجعله: (.. ذا مغزى لأطفاله ولمن سوف يأتى بعده…).
ويتم هذا للرواية من خلال مونتاج متوازى لصورتين متطابقتين تماما، وهما بأسلوب عرضهما هكذا يعملان كجملة مؤسيقية تعزف فى درجتين مختلفين فى نفس اللحظة:
قصة الحلاق الذى يكتشف السر.. السلطان بأذنى حمال .. والسر ثقيل ثقيل وخطير ينوء به الحلاق بالسر، فكان أن نفث بالسر للأرض وجذور البوص، وجاء من صنع نم البوص صفافيراً تذيع السر مع كل نفخة فى البوص، وكان موت الحلاق بالسيف، وكان موت الشخصية بالبلطة، وابتسامة الراس على رمح فى مقدمة الموكب التى تعزف له صفافير البوص فى أيدى الصبية يوم تتويج السلطان الجديد.
ما سبق كان محاولة لتناول العمل كما هو معروض فى أجزاء متتالية، وأسلوب عرض العمل فى أجزاء فرض علينا أن نتناوله بنفس الأسلوب، لكنه فى نفس الوقت أثار بعض التساؤلات: أولهما وأهمها عن الراوى وأهميته، وأثره فى البناء ككل، ومدى الإمكانية والحرية التى يتيحها لصياغة العمل، والراوى فى هذه الرواية ليس عنصرا حقيقيا من عناصرها لأنه لم يدخل فى علاقة مع أى عنصر آخر من العناصر: شخصية كان أو مكان أو زمان، ولأنه ليس بعنصر من عناصر العمل، وتقتصر وظيفته على مجرد الحكى كما فى الرواية التقليدية (الراوى الذى يعرف كل الأشياء فى الأرض والسماء)، فالمفروض أن يكون محايداً ليرينا الأشياء على حقيقتها، ولينمو التفاعل بين الأشياء تلقائيا وطبيعيا دون تدخل يحد منه، أو يوجه اتجاهه بشكل متعسف، أو يصبغ العناصر بصبغة واحدة، فيميع الشكل فى النهاية.
لكن فى هذا العمل – كما بينا فى كثير من المواضع – لم يكن الراوى محايداً، فطغى صوته على كل الأصوات، وصار ما يسمع غالبا هو صوت الراوى، حتى أنه كان يتحكم فى طريقة تداعى الصور، فيحكم ترتيبها، ويتقن صياغتها بشكل يتنافى مع منطقها.
وبذكر تداعى الصور – واضح أن العمل يعتمد على هذا، وفيه – حقيقة – إطلالة على زمن يحاول جاهدا أن يتشكل من أجل الاحتفاظ بالتجربة، ومن أجل إعادة بناء زمن قد مر ويظن أنه (… حدث فى عصر آخر ..)، غير أن المحاولة كان يعوقها هذا الراوى الذى لم يترك للشخصية أن تعرض لنا ذهنها بكل ما يعتمل فيه من حركة المكان فى الزمان .. أقصد توارد الصور كتوقيعات على زمن فى محاولة للتشكيل ليلم بشتات التجربة فى شكل نستعيد فى تلقية التجربة نفسها دون عناء ممارستها، بالإضافة لاى أن عملية بناء الزمن فى شكل فنى هى بمثابة تجاوز (اللحظة/الواقع) كنتاج للماضى ودلالة على المستقبل إلى زمن أسطورى ينفذ إلى وجدان المتلقى، ويعد إضافة له، وامتداداً إلى آفاق اشمل وأرحب.
وليس بهام أن يعرض العمل بصوت واحد، لكن بأى صوت؟ علينا أن نختار، وبديهى أن نختار أهم الأصوات، وهو صوت الشخصية نفسها التى تعانى التجربة، والتى كانت معظم أجزاء الرواية تداع لخواطرها، وأحلامها، ولاوعيها، ووعيها فى يأسها، وفى أملها، وفى ابتسامتها المعلقة على الرأس المعلقة على حربة تتقدم موكب تتويج السلطان الجديد.
وأى لحظة هى: (اللحظة/الواقع) التى يمكن من خلالها أن ننفذ إلى هذا العالم الرحب المعروض فى الرواية، بديهيا هى أهم اللحظات وأخطرها تلك التى يمكننا أن ننفذ من خلالها إلى ذلك العالم، والرواية تحفل بالكثير من هذه اللحظات، فلحظة الابتسامة على الرأس المعلق فى حفلة التتويج تحمل هذه الإمكانية، ولحظة دفن السر جوار جذور البوص تحمل إمكانية أخرى، ولحظة (إقناع نفسه أن كل ما مر به حدث فى عصر آخر) تعد أيضا إمكانية و… فى كل صفحة من صفحات الرواية تقع عينك على مثل هذه اللحظة الهامة، والتى يمكن من خلالها النفاذ إلى ذلك العالم الممتد فى الزمان، وفى المكان إلى البعيد، لو نفذت الرواية من أى من هذه اللحظات التى تعانيها الشخصية إلى ذلك العالم لانمحت الفواصل والعناوين بين الأجزاء، ولامتلأ وجداننا بذلك الصوت الهام الذى حاول الراوى أن يشوش عليه فلم يستطيع، ولصار لدينا فى النهاية شكلا فيزيقيا محددا ينقلنا إلى شمول التجربة ورحابتها دون معاناة منا فى سبيل لم شتات هذا العالم ثم الاستمتاع بمعايشته.
وكان علينا أن نقارن هذا العمل الفنى بغيره من الأعمال الفنية الأخرى مثل: (المحاكمة) لـ (كافكا) و(الطرق على الباب الرمادى) لرمسيس لبيب خاصة فى المشهد الأخير من الروايتين، من حيث صياغة الصور وطرائق تركيبها، وبعض أعمال جمال الغيطانى فى استلهام الرواية لمشاهد التاريخ المصرى، ورواية نجمة أغسطس لصنع الله إبراهيم فى أساليب استدعاء التاريخ وإجراء الجدل بينه وبين الواقع، وكذا بأعمال (بيللا بارتوك) فى كيفية استلهامه للتوقيعات الشعبية، وكذا أعمال (ماك شاجال) وعبد الهادى الجزار… الأول من خلال عالم الفانتازى ورموزه الأسطورية، والثانى من خلال اعتماد أبنيته على التيمات الشعبية والأسطورية وكذا أسلوبه فى صياغة الشكل ككل…
فإلى دراسة أخرى عن: "هكذا تكلمت الأحجار" لنوفيها حقها بوضعها فى مكانها من تراث الفنون.
وأملى من كل ما سبق أن يتقرب هذا العمل الفنى – المثير للاهتمام – من ذهن المتلقى.
محمد هويدى – القاهرة 1979
كان يحاول جاهدا اقناع نفسه، أن كل ما مر به حدث فى عصر آخر. لكن عقله كان عاجزا عن اختراق ركام الذكريات والسنين. فتشبث بوهم بارق من تلك الايام الخوالى التى لن تعود، يوم كانت الاشجار تتقن لغة الأطفال، وكانت الحقول تمنح الامان للطير.
ذات صباح قديم، سمع (قبرة) تحض قلب طفل صغير على التمرد:
لا تصدق كل ما تراه عيونك، أنت تتصور أن الحاضر باق الى الأبد، السماء لا تلمس الافق يا بنى ولا تحط فوق الاسوار العالية فى أى مكان، السماء ابعد من أن تنالها قبضتك الواهنة، صدقنى فنحن نرحل عبر مسافات لا نهائية. ونعرف أن العالم أكثر رحابة من قريتك، وأكثر عمقا من أفق الحقول الخضراء التى لا تعرف سواها.. العالم أحلى بكثير من الخرابة المغمورة بضوء القمر، وأرحب من حوش (القواسم) المزدحم بالأطفال المرضى.
اهتز ايمان الفتى بقدرة أشجار التوت. وابتدأ بقلب منشق يتأمل ما حوله من عجز. لكنه استجمع قواه فى المساء وقال لابيه العجوز الذى كان مشغولا باطعام بقرته الوحيدة الهزيلة وهو يصارع آهة ألم غير منظورة:
لم أعد أطيق كل هذا القدر من الدناءة، لم أخلق لحرث الأرض وشق المراوى. ما فائدة أن يزيد عدد التعساء واحدا. سوف أرحل ذات يوم، سأرحل بالتأكيد.
ومضى يحلم فى الليل بالسفر الطويل، ويبشر الآخرين فى النهار بالابعاد والمسافات.
وفى المقاهى الضيقة الدافئة ذات المقاعد الحجرية، أخذ يحدث الرجال عن البلدان البعيدة والمدن البيضاء. ويعنى لهم أشعارا عن طرق الفجر المضيئة التى تمر عبر زنازين السلاطين والملوك. ويفسر أحلاما غامضة عن أزمان لم تات أبدا منذ ظهر الانسان على الصخر النارى، ولكنها ما زالت تبدو اقرب من حبل الوريد.
ولكنهم كانوا غارقين طوال الوقت فى ظلام لزج من ليل القرية الكافر الذى لا يرحم ولا يحرر أحدا من هموم التفكير فى اليوم المضنى القادم.. ومعاناة الخوف من المجهول – فغرق معهم فى سحب الدخان الرخيص وأحضان النساء الجرداء..
لكنه ظل يتسلل الى الترعة ويتقافز على جسور القنوات الراكدة الماء، فى الليالى السوداء وفى الليالى القمرية ويحدث الصبايا الفقيرات ويمنهم – بعد أن يملا كفوفهم المعروفة بحبات الفول السودانى والعطر الرخيص – عن القناديل الزرقاء، التى تسرجها الفتيات العاشقات فى القرى الجبلية لعشاقهن الخارجين على القانون، وهو يعلمهن الكلمات الغامضة ذات الجرس الاخضر، والتى لها طعم القرفة ورائحة التمر هندى وصوت فيروز – تلك التى لم يرجع بسواها من رحلاته السبع فى البحار المجهولة المليئة بالمخاطر والمهالك..
وفوق كتفيه الناحلتين الهزيلتين، حمل أطفال القرية الصغار، وعلى قدميه الحافيتين مضى معهم يمشى خلف القوافل فى الدروب المجهولة، معتليا ظهور المراكب ذات الاربعين شراعا، أو ممتطيا الافيال الضخمة فى الجزر والوديان البعيدة، أو متعلقا بأطراف أجنحة الرخ الاسطورية، ليشاهدوا معه، ولو لوهلة خاطفة – تلك المدن والجبال التى يغمرها ثلج كالقطن وتملاها ضحكة الاطفال التى لم يعد يسمعها حتى فى الحلم.
أيامها كان الجميع أصدقاء له، ينتظرون قدومه مع المساء، كل ليلة فى شوق ولهفة. ورغم كل شئ كان يحبهم جميعا: أطفال الطريق المترب الصاعد حتى شاطئ البحر القديم، فتيات الجرن العاريات الاقدام، ظل قبة (سيدى مجاهد) الرطب، ضفادع المصارف الخضراء والسوداء ومياه السبيل العطنة الباردة، وحتى، روث الماعز النفاذ ورائحة الجميز (الباط)، وعيون البنت (مديحة النمر) ذات الانف والخدود الميئة بالنمش اللذيذ.
كانوا جميعا يصدقون كلامه، ويؤمنون به ايمانهم بأسرار الشيخ (أبو الرايات) ومعجزات (أحمد زنوبة) الباتعة، التى لا يجرؤ أحد على الشك فى تحققها وحدوثها على طول الزمان.. ورغم ذلك لم يستطيع أن يخطو خطوة واحدة، أو نصف خطوة، فى اتجاه تحقيق معجزاته الشخصية وأحلامه البسيطة. فالابواب المغلقة لم تكن قد سمحت بعد بامكانية التجاوز. ولم يكن هو قد أدرك بعد سر قوة الكلمات التى تملك طاقة الحركة والولوج – لقد كان صغير السن الى درجة لا تصدق، وكان قليل الخبرة بأساليب الجدل والمزايدة وتجميل الذات.
كان أيامها يملك قدرة واحدة، هى أن يستطيع حين يريد أن ينادى عليهم، وأيامها كانوا يهرولون نحوه من كل قرية ونجع، فيقودهم صغارا لغزو جنينة (أبو حسن) للحصول على الفاكهة التى لم تنضج بعد. أو يدفعهم صبيانا، لعبور البحر الصغير الى التلول لاصطياد طائر (أبو الخضير)، أو يحرضهم رجالا على اسقاط العمدة وتغيير مجلس إدارة الجمعية.
وعندما كان الليل يسقط فوق القرية فجأة، كعملاق جبار له ألف وجه (غول) مخيف وألف ذراع (عون) قادرة ومتعسفة، لم يكن يجد أمانا، إلا بالنظر فى عيون أصدقائه الضاحكة الذابلة، والتى كانت أيامها أكثر من أن يحصيها ساعة تحيط به، خلال أزمته. أو عندما يستلقى مستسلما وحده – فوق قش الاجران الندى، فى ليالى أكتوبر الباردة أو فوق رمال المنفى الحارقة الشوك.
بذلك جهدا خارقا فى جميع أشلائه المبعثرة فوق كثبان (المحاريق) الرملية، ليجد القدرة بعدها، فيزحف باختياره الحر الى حيث لا سماء ولا نجوم يمكن أن تزوره. بعدها ندم ندما حارقا على تسرعه، لأنه استسلم لهم بسرعة، وبلا مقاومة. وأضناه شعوره بالوحدة، وعذبة الاحساس بالانتهاك حتى غلبه النوم تاركا نجمته الصديقة تغيب عن المربع الحديدى المنتظم الاضلاع، وتتلاشى فى الابعاد اللانهائية. منذ زمان بعيد.. بعيد تعود أن يراها تسبح كل ليلة فى نفس المكان وفى نفس الموعد، عارية كجنية الحواديت. وكان يسعده أن يفكر فيها وأن يمد لها ذراعه محاولا أن يلمسها فى الظلمة وعندما كان يخيل إليه أنه أفلح فى احتوائها، كان يحس حنان الجسد البشرى الغض يزلزل جور الجدران العتيقة، صاعدا به رغم الاسوار الى حيث يسمع نبض الاجنة ويذوب فى دفىء الارحام.
يوم دعاها الى منزله أول مرة، لم تجد غضاضة فى الاستجابة لندائه دون تردد، هبطت من سمائها الى أرضه المتربة، ومضت معه عبر الباب الضيق والشوارع المفزعة فى غفلة من الحراس لتنام على صدره فوق السرير الفقير الذى كان يحملهما الى أركان الدنيا المسحورة. وفجأة – فى كل مرة وقبل أن تكمل الاحرف المهشمة شكل الكلمة العاشقة كانت عربة شرطة مجهولة الوجهة مشروخة الصوت تمقرق محدثة زلزلة وضجة، ممزقة حلمهما المشترك. لتلقى به فى مهاوى الشك والتردد، يحاصره رعب الأم وصراخ الاطفال فى الامكنة البعيدة. بعدها، يسمع صوت الاقدام الغجرية والاحذية الثقيلة وهى تتكاثر وتتزاحم صاعدة إليه السلم الحديدى لتدهمهما فى جنون. فيسرع مخفيا وجه حياته المشوه تحت الغطاء (الميرى) المزق – وينتحب..
قذفت فه أمواج الذكريات الكئيبة الى الظل الرطب.. فمد أصابعه تتخلل فى رفق حبات الرمال الباردة، تذكر أنها هجرته بارادتها الكاملة، ومضت خلف حلمها القديم بالثوب الابيض والتراتيل المقدسة والزغاريد، ولكن الرحلة الى الجبل، لم تكن على هذه الدرجة من الامان، فلم تكن أشجار الارز اليفة كأشجار الجميز. وارتعش النيل منكفئا من الرعب الى المستنقعات الاستوائية.. فهوت كصخرة خرساء، لتحترق فى حمام البيت الآيل للسقوط، وسط بخار الماء الساخن والصابون الرخيص، وهى تنادى عليه. هاجمت أنفه روائح قديمة مألوفة، فانشق صدره وامتلات عيناه بدموع جلفة..
ودار بعينه المختنقة بغمامة الذكريات المطيرة، بين أشجار الخروع وشجيرات الساسبان. وتابع ظلال رفاقه ذوى الايدى المرفوعة فوق الرأس، فى الطابور الطويل. وتأمل النخيل القزمى المتناثر منفيا فى الصحراء البليدة فتذكر نخلة عمه (الحيانية) العملاقة. وتجسدت أمام عينيه ابنة عمه الفائرة ذات الشعر الخشن والعين الحولاء. وحاصرته نظرتها الشبقة، وهى تختطفه الى (مدود) العنزة، لتدفن رأسه الصغير فى صدرها المتحجر البرى الغارق فى العرق النفاذ.. فلا يجد مفرا من الاستسلام المشوب بحب الاستطلاع واللذة، وهو لا يفهم تماما سر لهاثها الباكى.. وآهاتها المتألمة ودقات قلبها المتوترة، فيظل قلقا حتى تهدأ. لكنه يزداد شكا، لأنها لم ترض تماما، فيراها تبعده بجفاء على طول ذراعها، تاركة اياه أسير شعور قاتل بالخجل، لا يتناسب مع سنوات عمره القليلة، فتعود إليه غافرة مداعبة شعره القصير بلا حياء. وتصح عنه آمرة أن يساعدها فى سقى البهائم ونقل السباخ..
يصعد مرة أخرى مكررا محاولته.. الدائبة للولوج من النافذة الوحيدة ذات القضبان السميكة الصدئة المتقاطعة. يسقط ويعاود التسلق، ولكن الجدار كان عاليا لدرجة لا تصدق، وأدمت الحجارة أظافره، وخله الجوع.. فارتمى ضعيفا عاجزا، وتكوم تحت الغطاء مخفيا وجهه بكفيه النحيلتين، محاولا دفن هزيمته ونظراته المرتعبة فى أحشاء الفراغ المظلم الضيق المحصور بين ساقيه المنثنيتين والبطانية. ارتعشت أجفانه المبللة ثم هدأت متعبة، فحلم بالشطآن الت يغسلها الموج الأزرق حيث تتناول الاسماك طعامها فى هدوء الفلاسفة – ولكن ما أن تبينت عيونه أطراف النخيل الاستوائى، وما كادت همسات أمواج المحيط تطرق سمعه من بعيد حتى غرق فى نوم عميق، سكرانا برائحة القواقع والاعشاب الجافة، والجميز الباط، والزيت المقدوح فى الطاسات السوداء الفقيرة، مستنشقا دموع البنت (نجاة) حينما اعترف لها بحبه فصدقته باكية، وارتمت يائسة فوق صدره، محتمية من جنون أبيها وقسوة أمها، فأنعشته طراوة ضفيرتها الوحيدة وأيقظت حسه حرارة خدها، فأقسم لنفسه أن يتزوجها بمجرد عودته رغم سخرية أخته الكبيرة.. التى وقفت فى الركن تؤنبه بشدة، لأنه يزرع آمالا فى حقول مجدبة يعذبها الشوق للمطر، فحاول أن يجادلها مثبتا قدرته على رعاية بذوره، لكنها ثبتت عيونها فى عينه فأغمض معترفا بقلة حيلته، وهو يتذكر يوم هبط الى الارض فى زمان بعيد، متسلقا أشعة القمر الفضى هاربا من مؤامرات الجوارى الروميات الى عزبة الغجر ذات الحوارى الضيقة، مداعبا بناتها الفقيرات المشققات الكعب.. مقبلا وجناتهن المبقعة خلق وابور الطحين، أو فى ظل نخلات ياسين السبعة، أو خلف كرسى الوزير، وربما تحت سلالم قصر الوالى نفسه، لعب معهن العروسة والعريس وفى الزرائب وفوق السطوح ورغم صراخ (عيوشة المهبوشة) الى لا ينقطع، أو فى الجرن الخالى رغم تهديدات عمته يصطاد لهن – مظهرا البراعة الفائقة – الفراشات البيضاء وديدان الارض العمياء التى هرستها أحذية الجند حتى الموت، يوم أقبل المنادى الاكرش عليهم يدق طبلة المعادى، مناديا حراس الاسوار وبوابى العمارات المجاورة للانتقام منه، وليجرسوه وليهتكوا سره.
يومها كم تشابكت السياط فوق ظهره ورأسه وغامت عيونه بالدموع والعرق المالح فرأى المدن ترقد قتيلة يتصاعد منها دخان الحرائق، وصرخات المهزومين فى الشعاب الملتهبة حول (البردويل) و (عيون موسى) مختلطة برائحة المحاصيل المتعفنة والمياه الراكدة والبول الدموى.
وتذكر كيف كانت (الغولة) ذات العين المنطفأة تزوره تحت ستر العتمة فتلفه بذراعيها الخشنتين محاولة سحق قلبه تحت ضلوعها فيجاهد للافلات مذعورا، جافة فى عروقه الدماء، متحجرة تحت جفونه دموع اليأس والكلمات، فتتركه مغضبة متوعدة ايا بكل أنواع البلايا. منذرة أنها ستعود فى الصباح مكررة المحاولة، مرتدية ألف قناع وقناع. وستحكى له ما لم يعرف من حكايات الاشرار وسير الاخيار وستغريه للذهاب معها الى حدائق الرمان واعدة أنها سوف تعبر به الابواب المغلقة الى قصور الاحلام حيث جنيات الليل الطيبات ينتظرنه بالسعادة الابدية، فيطيعها وجلا، بلا اعتراض، نادما على تمرده ليكتشف فى الصباح أنها حولت بحارته الى خنازير، وعرتهم من ثيابهم وشبابهم وشوتهم على السفود.. وملات سفينته بالجرذان والعقارات بعد أن كبلت الرياح الأربع، لكنه ظل يصرخ، تعذبه لهفته وشوقه الى النجاة بجلده، فلم يحضر على صراخه إلا الحراس الحليقى الرأس ذوى الرقاب الوحيد تحت شجرة التوت الحبشية ذات الثمار الدموية.. فلحقوا به وضربوه ضربا مبرحا فى البيت ثم جلدوه فى المدرسة حتى بعد أن تاكدوا من موته تماما.
وخزه الجلد القديم المحترق فوق ظهره وأكتافه فتوتر. ورغم أنه لم يعد يحس الم عصى الخيزران الرفيعة، أو السياط السودانية المعقودة فى الزيت لكنه ارتجف وتكور حول نفسه وتساءل عن سر رعبه، وكل شئ قد أصبح على ما يرام الآن كما يقسم رفاقه. وأحس بخجل شديد منهم، أن يسمع أحدهم صراخه أو يرى ضعفه، فيظن به الظنون أو يتهمه بمحاولة خداعهم. وساعتها لن تغفر له كل هذه السنوات الطويلة من الحزن والالم، ولن تشفع له تلك المسافات التى قطعها فى سفر لا نهاية له عبر المكان الواحد والزمان الذى لا يتكرر فآثر الصمت..
وحل مع صمته الصمت على العالم..
حل فجأة مثلما مات هو فجأة تحت الاقدام، ولم يعد يسمع من مكمنه سوى صوت طحن ضلوع بشرية وانسحاق عظام أثرية، ونشيش شواء لحم حى. وصرير أبواب عتيقة، يفضى الواحد منها للاخر ليفسح المدى لرنين سلاسل ذى صدى عميق الابعاد يبتعد فى رتابة حزينة..
الصباح الذى حل قبل بدء الرحلة
يوم جاءوا به الى هذه المدينة العجيبة ذات الاسوار العالية. بكى والده الفلاح العجوز – الذى لم يغادر قريته أبدا – وسالت دموعه وهو يتأوه بحرقة أمام البوابة الرئيسية لحظة شاهده عاريا كما ولدته أمه يعبر الطرقة بلا خجل، خلال الباب الضيق الى صالة الاستقبال. حيث كان طابور من العساكر الاميين يقف فى استقباله رافعا العصى الخرساء على كتفه. وجفف الوالد دموعه فى الملابس التى كانوا يلقون بها إليه قطعة وراء قطعة بعد أن ينتزعونها بقسوة من فوق جسد طفله تحت وابل العصى والشتائم. ووجد بقية من قدرة ليغمره بنصائحه دون أن يدرك فوات الأوان:
كان ما لنا ولهذا، أن أحدا منهم لم يعرف طريقه الينا أبدا. نحن قوم فقراء يا ولدى وضعاف، عملنا هو أن نزرع برسيم البغل الذى يعبده أسيادنا، نحن الكوبرى الازلى الذى يعبر فوقه الملوك والغزاة وتمر فوقه العصور – الكوبى يا بنى لا يتمرد على الاقدام التى تعبره – والنيل: لا يسأل عمن يشرب منه ولا عمن يتبرز فيه.
أرهقتنى كثيرا وظلمت اخوتك البنات، من سيتقدمن اليهن بعد اليوم وهم يلقون بملابسك هكذا فى وجهى دون اعتبار لما دفعته فيها؟. أنا الذى كنت أظن أنها ستزيدك قيمة واعتبارا، لقد عرقت وتعبت فى حقول الناس، وسدت بذور قمحهم وكتانهم لحمى وسقيتهم ماء أيامى ودموع عينى، وكان أملى أن أكسو جسدك وأسترك، وها أنت تتركهم يلقون بها فى وجهى لا مبالاة.. يا للجحود! مليون سنة كاملة مضت لم نفعل ما يغضب يالعبد أو الرب لتأتى أنت على آخر الزان فتبيح لهم ساحتنا، قلت لك كثيرا لا تفرح أكثر من اللازم، نحن لا فرح لنا.. قلت لك كثيرا لا تحلم أكثر من أكثر من المعقول فأحلامنا مشانقنا. قلت لك ابتعد عنهم فهم طينة أخرى، لكنك آثرت الاقتراب منهم.. لتتنافسهم أتظن أنك ند لهم؟ أنت مغفل، وأنا الذى حسبت العلم والتعليم سيهذب من طباعك وأخلاقك ويحميك لى!. آه-
يا ليتنى كنت قد ربيت بهيمة! كانت ستعطين وتريحنى لماذا يا رب رزقتنى بمن يأتى ليفسد فى آخر عمرى سجل حسناتنا، الوالى أطيب خلق الله. لكنك جاحد هكذا كنتم منذ آدم والى الابد، هو يفعل كل ما يستطيع لخيرنا وأنت تسير عاريا بين الحرس لتفاخر بدناءة أصلك، يا ولدى أطعنى، افعل ما يريدونه لأنه لا يجب أن تفعل ما لا يريدون. هكذا الحياة ولقد وعدونى، نعم وعدوا أن يعيدا اليك كل شئ، ولى. وعدنى حضرة الضابط.. أنه ابن أصول وقادر على أن يفى بوعده.. بالتأكيد سيفى بوعده..!
ملا وجه أبيه المذعور الفراغ المحيط به لحظة اصطدمت به كف رئيس النوبة فى قسوة وعنف. تطير خياله شظايا قبل أن يغيب الوجه المرهق العجوز عنه نهائيا خلف الباب الثقيل العتيق ذى الصرير الشيطانى، والذى أغلق فى عنف وقسوة، ليحول دون اتصال النظرة الهلعى بين الطفل والعجوز. لكنه استطاع أن يراه رغم القناع الاسود السميك الذى أدخل رأسه فيه ورغم الخشب الاثرى السميك، رآه يعصر ومة القطن والصوف التى تنضح برائحة العرق المألوفن والتى تبقت له من (ضناه) فى رعب وذهول، وسمعه ينشج فى ذل ويدق بقوة سنوات عمره الطويلة المليئة بالشقاء محتجا فوق الباب الاخرس، ثم متوسلا كمتسول ليسمحوا له بوداع وحيده أن كان لابد من اعدامه، لكن القبضة الواهنة التى امتصت منها الحقول البخيلة ما الحياة، عبر سنوات طويلة وحقب أزلية، لم تستطع أن تصل بصوت طرقاتها الى أذن كبير الحرس الجالس فى صدر الديوان السلطانى، فكف عن المحاولة واستدار فى فتور ويأس مبتعدا عن سور المدينة الاخرس حتى وصل الى الشارع الرئيسى المرصوف واستطاع أن يدس نفسه داخل عربة مزدحمة وهو متشبث بما تبقى له من ولده، وبعد أن نجح فى العثور على مكان لقدميه وسط الزحام، سمعه بعضهم يهمس معتذرا لمن يقف الى جواره – وكان فحلا عريض المنكبين تبدو عليه النعمة – خشية أن يكون قد ضايقه قائلا فى صوت واهن مؤملا أن يشاركه أحزانه:
- على الأقل هو فى أمان هناك – صدقنى هو فى أمان.
لم يبال الفحل به ولكن ركابا بسطاء من صيادى السمك والسمكرية حدثوه كثيرا عن تلك المدن وعن ضربات الحظ المؤكدة التى تهب الراحلين إليها السعادة والغنى وطول العمر.
حدثته امرأة سمينة سمراء عن أوراق مجهولة بها طلاسم ورموز، من استطاع فكها دلته الريح الى طريق مدينة النحاس ذات الشوارع المرصوفة بالبلور الصافى والعذارى المغنيات والحمام الاخضر الذى يصلى طول اليوم على النبى.
وأكد له شاب مقطوع أصابع اليد اليمنى حقيقة السينات الثلاثة والاختيار الصعب الذى يكلف البعض حياتهم أو جزءا من أطرافهم، ويكلف البعض الآخر رجولتهم وقدرتهم على الانجاب.
وحكى له عجوز أكثر منه خبرة، عن رؤوس الفرسان المقطوعة من جدر الرقبة والتى تعلق فى يوم السوق على الاسوار، لتظل فى مكانها حتى يأتى الفارس الأخير ليكمل الاربعين عدا، فتبدأ الطقوس مرة أخرى، استعدادا لبداية العام القادم فتتم الدورة من جديد.
تذكر العجوز أيام كان ابنه يقرأ له عن تلك المدن فى كتب الايام والتاريخ فاستوثق وآمن واعتصم بحبل الله، لكنه لم يطمئن تماما، إذ أنه تذكر عندما تركوه وحده بجوار السور الاصم الذى (لا طاقة له ولا علاقة) فأخذ يبحث الصخرية، لكن كفه لم تلمس بسبب الظلام أسفل الجدار، سوى بقايا حيوانات ميتة وبشر محتضرون ونفايات عضوية ونفايات عضوية نتنة، فأخذ يغرى جاره الآخر المنسحق بين الاجساد الملتهبة بالعرق والضيق – مسريا عنه قائلا:
صدقنى هو فى أمان أكثر هناك، فأنا عندما أخذته اليهم مختارا رأيت فى عيونه نظرة عرفان، نعم أنا متأكد أنها نظرة عرفان عميقة. لقد كان متعبا ممزق الجسد محترق الجلد فى أكثر من مكان بسبب بقايا السجائر وكان دامى الوجه ولكنه كان من أعماقه يشكرنى فلم يكن ممكنا أن تستطيع أقدامه حمله أبعد من ذلك.. وكيف يهرب وقد تخلى عنه أصدقاؤه وكانت هى تخونه علانية وهى تقسم أنها تحبه، ألا تصدق؟ وأكثر من ذلك لقد وعدونى بالمحافظة عليه واعادته عندما يرضون عنه.. أقسم لكم جميعا أن رئيس الحرس التركى ضحك فى وجهى وربت على كتفى ووعدنى أن يعتبره فى مهمة رسمية بلا بدل سفر بسبب نفاذ البند، وعندما شكرته نهرنى بينما ابتسم ولدى يشكرنى وهم يجرونه بعيدا، التفت نحوى يغمرنى بعرفانه ثم ذهب صامتا معهم، ذهب بكامل ارادته، وتركنى وحدى مرهقا متعبا باكيا بسبب أفعاله، يا لنكران الجميل.. فعلت كل ما فعلت من أجل مستقبله ثم يتركنى ويذهب معهم أيرضيكم هذا؟.
لكن الصمت فقط هو الذ واجهه. وتشاغل أكثر الركاب بعد أعمدة النور والاشجار. وابتعد الفحل مشمئزا، بينما مصمصت العجوزة شفتيها، وتنهد العجوز الأكثر خبرة فاسترسل مخاطبا تنهيدته المتعاطفة:
- نحن العواجيز عجزة بما فيه الكفاية.. ويجب أن نتذرع بالصبر ونستغفر الله لخطايانا القديمة.. فمن يستطيع أن يفهم حكمته فى ذلك؟. ومن منا بعد كل هذه السنين يستطيع أن يفهم حكمته فى ذلك؟. ومن منا بعد كل هذه السنين يستطيع أن يفهم أسرار تلك المدن التى لا تفتح أبوابها إلا بقوة الكلمات التى يعرفها ابنى بالتأكيد؟ هو متعلم بما فيه الكفاية صحيح أنه لم يرد على عندما ناديته ليفتح لى ولكن ماذا كان بيده أن يفعل؟ وهم لم يعطوه فرصة كافية ليعلمنى تلك الأسرار!.
وتذكر العجوز وهو يصعد سلم البيت أن ابنه كان يهوى عد الدرجات صاعدا أو هابطا فأخذ يعدها اكراما لذكراه، وعندما وجده يجلس أعلى السم فى بنطلونه القصير مغضبا تفجرت فى قلبه ينابيع الذكريات القديمة وتزاحمت تسابق بعضها فوق لسانه عشرات الحكايات السعيدة التى سمعها أيام طفولته الأولى التى نسيها، ابتسم ابتسامة متسامحة وحاول مصالحته ولكن، ما أن فتحت له الأم الثكلى الباب ولمحت ملابس وحيدها قتيلة بين ذراعيه حتى غاضت الابتسامة تحت لهيب نظرتها المتحجرة.. وارتمى على صدرها منتحبا كطفل يرجو المغفرة لأنه بوغت مبللا ملابسه الجديدة صباح يوم العيد!.
المساء الذى حل بعد بدء الرحيل
أخذ الحارس ذو الملابس المزركشة يعبث بشاربه الكث متأملا القادم العارى بامعان ذى خبرة، متحفزا يبحث عن سبب للانقضاض عليه وسحقه بين أصابعه أن لزم الأمر، أو امتصاص دمه حيا حسب الأحوال.. وكلما اقترب القادم منه ازداد معرفة به فازداد عبوس وجهة، وحينما أصبح قاب قوسين أو أدنى ضحك فى وجهه ضحكة جوفاء صاخبة جعلت عظام الفتى النحيلة ترتجف تحت جلده رعبا، فأسرع يشبك ذراعيه فوق صدره مصليا يحتمى باله قديم كان يقدسه أجداده الأوائل.
وبعد أن فحص الحارس أوراق النزيل دون أن يقراها فتش شعره وثنايا جسده الابيض العارى فى شبق بهيمى، ثم قلب شفتيه فى احتقار، وأصدر صوتا قبيحا طويلا بفمه وأنفه معا، فأضحك ذلك جمع الاطفال الذى تجمع فى أرجاء المكان لرؤية القادم الجديد والاحتفاء به حسبما تقضى طقوس المدينة.
ونبهت ضحكات الاطفال مشاعر الوافد الجديد وأيقظت بقلبه حلما قديما حبيبا الى قلبه فدار بعينيه يائسا يبحث عنه بينهم – إذ كان يحلم طوال عمره بأطفال يضحكون من القلب – لكنه لم يتبين أية مشاعر سعيدة بقلبه، وانما اعتصره خوف رهيب، وضحكاتهم تكشف عن أسنان سودها الدخان الرخيص، وعيونهم تنزف سائلا لزجا كعيون مدمنى المخدرات.
أعاده أحدهم من وهمه عندا ألقى إليه بخرقة قديمة قذرة كى يستر بها عورته، وهو يلعن أمه وقلة حيائه.
وتقدم منه أحدب ماكر شديد الحيوية باسم الوجه يعرج عرجا خفيفا، وأشار إليه خفية أن يتبعه الى حيث ينبغى أن يقضى ليلته الأولى.
التفت الى الحارس مستئذنا لكنه كان مشغولا عنه بالتهام فخذة انسان آخر، فمضى والاحدب أمامه يقفز خطو بعد خطوة فى احترام وأدب حتى وصلا الى حجرة كئيبة فى آخر الطرقة المدبة السقف فدفعه فجأة الى داخلها بحركة سريعة ثم أغلق الباب عليه وهو يطلق ضحكات ساخرة مشروخة.
ولكن هذا لم يغضب الفتى، بل على العكس تماما، أحس براحة ساحرة عندما وجد نفسه وحيدا لأول مرة من زمن بعيد. وكان فى حاجة ماسة لبعض الراحة يذيب فيها ضوضاء يومه الرهيب، وأحس بدوار خفيف بعد اغلاق الباب إذ هدأ كل شئ فجأة وكأن العالم كله قد مات – فلا صوت ولا حركة – وجسد له الصمت الثقيل ثخانة وصلابة الجدران، وملاته الرطوبة والعفونة التى تنضح من مسام الصخر الجيرى احساس عميقا بالمسافات والازمنة، وكأنما هذه الحجرة الضيقة قد انفصلت عن العالم الملموس كفقاعة حجرية سقطت فى الفضاء اللانهائى.
وخمن حسب خبراته وصحة تقديره فى مرات سابقة أنهم لابد وأن يتركوه ليستريحوا من عناء اليوم الطويل معه، استعدادا لطقوس تعميده كمواطن للمدينة فى صباح الغد، وملا صدره فى محاولة يائسة لجمع شتات نفسه المبعثرة واستعادة وعيه الضائع بحقيقة الأحداث.
وسد رأسه مطمئنا فوق صدر فكرته، وأغمض عيونه المرهقة مستسلما داعيا إليه كل أحلام عمره الماضى كى تهرب به الى حيث تولد المواقيت والمسافات. لكن تقديره كان خاطئا تماما. إذ دار مفتاح صاخب مرعد على حين غرة فى طبلة الباب مخيبا أمله ذابحا الهدوء المؤقت، محطما هيكل الصمت من جذوره وانفتح البا على مصراعيه بعنف. وخلف سيل من الصرخات والسباب – اندفع يغرق الغرفة منطلقا من عشرات الشفاه الملتوية والافواه المهشمة – اقتحم عدد كبير من الحراس والاطفال المشوهين فراغ الحجرة الضيقة وأخذوا يدورون ويصخبون على الارض المربعة الصلدة وفوق الحوائط الرطبة المتعفنة مخترقين كل شئ، نافذين من كل شئ، حتى صدره ودماغه. جلس بعضهم فوق فراشه وتحته وتعاق آخرون بالسقف والزوايا، بينما جعل الاحدب من حبل المصباح ارجوحة مضى يتأرجح فوقها بين النافذة وشراعة الباب الضيقة، ماصا ابهامه القذر فى استمتاع بينما راح بعضهم يتمرغ فوق الارض المبلولة فى الوقت الذى كانت عين رئيس الحرس تراقبه وتتبعه طوال الوقت فلا تفارقه إلا لتنقض عليه متسللة عبر غابة الاذرع المتشابكة والاجساد والسيقان تلقى إليه بالتعليمات بلا صوت، أو محذرة اياه من العبث أو الاستهتار بقوة قائد السجن، أو الحديث مع الآخرين من النزلاء، أو تبادل الذكريات أو الطعام معهم أو تخزين أى فائض من الطعام الميرى، والامتناع تماما عن احراز الممنوعات تحت أية حجة كانت!.
تقدم أحدهم منه فانتزع شعره من جذوره، وحقنه أحدهم بحقنة كبيرة قذرة. وألقى إليه أحد الاطفال – وكان أعورا – بلقمة سوداء، ابتعلها دون مضغ. وألقى طفل آخر إليه بوعاء قديم قذر تفوح من رائحة سموم البولينا المتحللة ليقضى فيه حاجته فى أى وقت يشاء.
وعاد إليه الاحدب ضاحكا فاتحا ذراعيه مرحبا به، ثم همس إليه وهو يلصق فمه باذنه اليمنى أن يتبعه الى الركن البعيد وهناك قال له بصوت هامس تعمد أن يسمعه الجميع على السواء مشيرا الى الرئيس:
- لا بد له أن يدخن أثناء العمل وأثناء الراحة والا كدرنا جميعا، ولطم أهلنا فى الزيارة.. معذور! فإن مرتبه ضئيل جدا، بينما هو يعول أمه المشلولة وجدته الخرساء وخمس عيال يأكلون الزلط وزوجة، وهو لو صرف قرشا واحدا من مرتبه على السجائر ستزنى أم عياله من أجل خبز الاطفال، أو تهجره لتتزوج مملوكا أكبر رتبة والبلد مليئة بالعزاب والاغراب الكافرين. أنت أدرى بالاحوال والا لما سجنوك! الست تدافع عن الطبقات الشعبية؟ أنه من عز الطبقات الفقيرة!.
نظر الى الاحدب نظرة عاجزة مؤكدا له أنه لا يقبل أن يحدث للشاويش هذا.. أنه يرفض أن تضطر أى امرأة – وليست زوجة الشاويش فقط – الى بيع نفسها بسبب الحاجة، أنه يمكن أن ينتحر لو حدث ذلك بسببه.
ضحك الاحدب وصاح بصوت أعلى:
- لا تكن طيبا الى هذا الحد يا (كويرك) أن امرأته تزنى الآن من أجل المزاج، فلا تهتم هكذا. امسح دموعك، ليس هناك فرق كبير ما دمت (ستطلع بالسجائر)..
ازدادت نظرته عجزا وانتابه الخجل. وعصر الاحساس بالذنب قلبه وهو يؤكد للاحدب أنه جاء اليهم عاريا لا يملك شيئا، سوى تهمة باطلة فقد كل شئ بسببها أمام الباب، حتى نظرة عطف من والده. وقد رآه الجميع وهو يدخل خاوى الوفاض، وكلهم فتشوه، حتى الحارس نفسه فتشه بدقة بالغة أمام الجميع، فكيف سيقع الذنب عليه لو ادعت زوج الحارس أنه السبب حين تنوى أن تزنى بسبب الحاجة وليس بسبب المزاج.. وأكثر من ذلك أنه لا يفهم كيف تغير سجائره أن وجدت مجرى التاريخ – بينما هو ينتظر حكم الاعدام!.
ضحك الاحدب مرة أخرى دون أن يفهم شيئا. وظل مادا يده متوقعا أن يلقى فيها (المعلوم) دون أن يبدى أى اشارة الى أن سيصدقه. وبعد فترة أنزل ذراعه يائسا ونظر إليه نظرة تأنيب ثم أومأ إليه أن يتبعه الى ركن بعيد آخر، وهناك بجوار الحائط الرطب، قرفص، وأخذ يعصر نفسه بشدة حتى برز شئ يشبه الكيس الطويل من استه، فمد يده بعد أن تأكد من خروج معظمه باحناء رأسه جيدا تحت نفسه، وسحبه بحرص وهو يبتسم، كان كيسا حقيقيا من المطاط منتفخا ومشدودا يلفه خيط أسود قذر، نفضه الاعور فى محاولة لتنظيفه مما علق به من براز ودم وأخذ يفك خيوطه. وبعد ذلك فرد محتوياته امامه على الارض واختار شيئا ملفوفا، مد به يده اليه، فتراجع الى الخلف مشمئزا وقد هاجمته رغبة عنيفة التقيؤ.
وأغضب رد فعله – هذا – الاعور غضبا شديدا فصرخ مثل كلب حاصره المصلون فى (زاوية). وتأوه متـألما باكيا يستنجد برفاقه وبالحارس، الذى أسرع يسد الركن بجسده الضخم محاصرا (اياه) فى الزاوية وقد اشتد انفعاله، واشتعل حماسه الشبقى، وبرقت عيناه وسال اللعاب من طرف فمه المكشر، مثل كلب مسعور مستنفز. وانهال عليه حتى كومه أسفل الجدار.
ثم جذبه بعنف الى وسط الحلبة فأنطلقت الجوقة تدور حوله فى خطوات منتظمة بطيئة وهو يرددون أناشيد وثنية غامضة جعلت العجائز عند طرف المدرجات البعيدة يمسحن دموعهن تأثرا ويرسمن علامة الصليب بينما علت هتافات المزدحمين فى الجانب الآخر المقابل للمقصورة الامبراطورية يطالبون بالقضاء على الضحية على الفور ارضاء للالهة المتعطشة للهدوء النفسى ولما سكتت حركته تماما أشار الامبراطور.
أمر الحارس الاعور والاحدب أن يفتشاه جيدا بحثا عن (المنشورات) التى لابد أن يكون قد أخفاها فى مكان ما، مثلما نجح فى اخفاء كل أثر للسجائر، ولما فشلوا فى العثور على شئ استداروا وخرج الحارس غاضبا حانقا فتتبعه الجميع مطأطئى الرؤوس خجلا من الفشل.
وعاد الصمت أكثر كثافة حين انصفق الباب.. وبسبب آلامه الحارقة وعجزه انتابه شعور حاد بالوحدة والمرارة وفقدان النصير. ووجد الراحة فى البكاء بحرقة، وفى التفكير فى زوجة الحارس – تلك التى سوف تصبح مومسا بسبب سجائره!.
ومر الوقت بطيئا ثقيل الخطى، لكنه استطاع أن يلعق دموعه وجراحه محاولا التعود على آلامها وهو يجر هيكله الى أسفل النافذة، ساعتها اكتشف أن وجه نجمته يطل عليه لاول مرة من بين القضبان فابتسم فى وهن ولكن الفرح غسل قلبه لما تبين أن نظرتها الرقيقة الحانية لا تحمل أى معنى من معانى الاحتقار!.
اليوم الى جرت فيه الواقعة
صعدت إليه فى خطوات مترددة وسط دخان عربة التراحيل القديمة وابتسمت له على غير العادة ابتسامة رقيقة تشبه زهرة تفاح وليدة. للوهلة الأولى تعرفت عليه، غريب هو، وملفتة للنظر حقيبته السوداء والنظرة العطوفة التى تطل من عينيه العميقتين. استجابت لدعوته بالجلوس، وجد نفسه يحدثها عن رحلته واخوته..
للوهلة الأولى تعرفت عليه، ففى زمان قدم زارها وفى الحلم أكثر من مرة عانقته وشكت له مصائبها المنزلية، وأنجبت منه أطفالا وسلالة!. وتحدثت إليه من الشرفة ولامسته خلف الابواب، ورسمت ظل شاربه فوق هوامش الكتب المدرسية وقبلته خلسة فى أمسيات الصيف القمرية وهى وحيدة تحلم بعناق السماء وتنتظر كلمة الرب المخلص.
دعته الى الجلوس بجوارها على المقعد الجلدى وبعد تمنع غير جاد أعطته يدها أمام الركاب جميعا ومسحت فى حنان دمعة قديمة نزفتها عيونه المرهقة وهو يحكى لها عن جرح قديم.
وفى مساء اليوم الذى قابلته فيه لأول مرة حملته كالمريمات الى بيتها وتعمدت أن يشاهد كل الناس فرحتها الأولى.. وحين تزاحمت حوله السترات الصفراء والسوداء، ابتسمت له مشجعة ومضت أمام الموكب تبشر بقيامه وصعوده وتهتف له!
أجلسته فوق سرير عشيقها القديم وأشعلت له غليون والدها وغسلت قدميه بزيت الورد، وأحضرت له سمكا وزيتونا وأطعمة بيدها. نسى معها معالم أرضه القديمة، وانمحت ملامح قريته وأيام طفولته واختلطت فى قاع ذاكرته المرهقة كل أسماء بنات الخالة، وبنات العم والاخوة ونداءات الاطفال فى ساحة (سيدى مجاهد).
صعدت أمامه صخور الشواطئ المسننة وجذوع الاشجار الهرمة ذات الاشواك، وسلالم أبراج المعابد الحجرية، وعندما أجلسته تحت صورة العذراء، وغنت له وحده، ماتت الى الابد – أو هكذا خيل إليه – صيحات العربات الوحشية فى كل مدن العالم. وكف الاطفال الجوعى فى عمق القارات الخمس عن الصراخ. وسقط عرض الشاه والامبراطور والخصى ولم تعد أذنيه ترتجف رعبا أو تسحقها أقدام العسكر المهرولة نحوه من أعماق الليل.
حدثته كثيرا عن اخوتها الاربعة الذين يحلمون بالهجرة ولا يكفون عن السع اليها، وعن امها النزقة ووالدها المتسلط المريض بالسكر وبالضغط. وحينما اكتشفت أنه يعرفها ويعرفهم منذ أيام الميلاد، أهدته زهور فل من حديقتها السرية، وغمرت وجهها سحابة رضا وأمل وحلمت بالثوب الابيض والصلوات المختلطة بصوت الارغن وزغاريد النسوة!.
قالت تهذى:
بالتأكيد سوف يغفرون لنا، أليس كذلك؟..
فأجاب كرجع الصدى بين جدران رطبة قاتمة:
- إذا كان هناك ما هو مؤكد فانهم سيذبحوننا بدافع الشفقة عند أول مفترق للطرق.
وعندما تصلب جسدها وبرد حتى الموت، انحنى عليها ورسم علامة الصليب وغنى لها أغنية تدشين البيت فى المزمور الثلاثين – "أعظمك يا رب لانك نشلتنى ولم تشمت بى أعدائى. يا رب الهى استغثت بك فستغيثنى. يا رب أصعدت من الهاوية نفسى، أحييتنى من بين الهابطين فى الجب". وسقط على وجهه منتحبا يصلى لالههم لكنهم أنكروه وعلقوا دمها برقبته، ومضوا وتركوه ملقى بعرض الطريق وليس الى جواره سواها رقيقة وذابلة كزهرة تفاح ميتة، تحاول بكل ما بقى لديها من قوة أن تبعد عنه العجلات المسرعة وسنابك خيل العثمانيين اللا مبالية، والجرائد القديمة.
من جميع الجهات زحفت نحوه ملايين الحشرات المفترسة.
فى البداية شرعت رؤوسها الدقيقة البشعة، وأدارت قرون استشعارها المسننة فى الهوا تتسمع وتتشمم حتى اطمأنت، ولما حاصرت جسده العارى المقيد بالحبال أقدام الحرس ذوى الرؤوس المحلوقة، أخذت تنهش لحمه وتمتص دماءه قطرة بعد قطرة وتفتش خلايا مخه واحدة بعد أخرى باحثة عن أسماء رجال وصبايا مجهولات دون جدوى!.
حاول أن ينهض ولكن أعضاءه رفضت أن تتحرك وخذلته، فقد كانت يد الحارس ثقيلة الى درجة هشمت أطرافه حتى العظام، أطل عليه وسط ضباب أبيض ثقيل وجه كالح يشبه وجه ثعلب مألوف، أخذ يشق لانفه طريقا بين الاجساد العارية، ثم أخذ يقترب من وجهه مترنحا فوق كتفين نحيلتين حتى لفحته أنفاسه الكريقة. وقال فى صوت أنثوى الغنجة والمخارج:
- ماذا تظن أنك تكتب، لست سوى فأر، وسنلقى بك مع الآخرين طعاما للقطط الجبلية. التاريخ وهم تعيشون فيه. فهو ليس إلا عجوز ذو لحية بيضاء اخترعه الحكام ليحدث الاطفال عندما نريد لهم أن يذكروا شيئا بالذات. وفى يوم قادم بالتأكيد لن تتعرفوا حتى على صورته تلك،!. لن يكون لديكم ما تفخرون به سوى رؤوسكم المعلقة – على جدران مكاتب الدولة الكبرى – تشهد لنا ببراعة الصيد وغباء الفريسة، كن عاقلا وفكر، ألست من أنصار الواقعية؟.. أهلك فى حاجة اليك. موهوب أنت والناس ستغفر لك، وقد تصبح شيئا، والا فاننا سنبعث بك لتموت معهم هناك وسط الصحراء أو قد تضيع أوراقك فى الطريق.. وكثيرا ما فقدت أوراق وأوراق منذ عرف المصريون المقابر!..
وكم ابتلعت كثبان الرمل المتحرك أمما وقبائل..
كل السفن ستغرق..
الشطآن بعيدة..
وربابنة الاحلام بمصر..
ناموا فى الظل الرطب وبشموا من عطف السلطان!..
التصقت به فاحتواها مستنجدا بطراوة أنفاسها أن تنقذه من حر الصحراء، أخذت ترجوه فى رعب وحنان أن يتكلم، وأن يعلن على رؤوسهم أنه لن يتخلى عنها مهما حدث وأن اضطر فسيهرب معها أو يأخذها عصبا أن لزم الأمر.
انغرست فى جانبه أسنان الصخر الحادة، فمضى يحدثها عن المدن المعدنية وعن بحيرات الزئبق حيث تعيش أسماك الفضة وتموت صغيرة. وكيف يجوع الاطفال وتنتفخ بطونهم بسبب الطاعون. وكيف تفتح رسميا فى احتفالات مقدسة سجون جديدة كل يوم ويشنق طلبة لانهم يقرأون أشعارا غير مقررة.. بينما توزع فى نفس الوقت جوائز الدولة على الشعراء فى احتفالات مهيبة. حدثها عن طرق الصدق الصعبة، وعن الموت فجأة فى بلاد غريبة. حدثها عن دروب خفية تختنق فيها العصافير الوليدة بغازات الافران ورائحة الاجساد المشوية ولا يكف المجانين والحالمين عن اختراقها بالرغم من ذلك بالآلاف كل يوم!..
قالت له: عدنى فقط حين يجئ الوقت!..
ذابت فيه وتلاشت. فأخذ يقص عليها أحداث رحلته الأولى فى أحراش الناس ولقائه بالوحش العملاق ذى العين الواحدة وفشله فى أن يفى بوعده ليتزوج البنت ذات الضفيرة الرطبة والوالد المجنون، وفسر لها لماذا كان والده لا يضحك كثيرا. وشبك فوق جبينها ريشة الرخ الذى ربط نفسه الى ساقه لكى يعبر بحر الظلمات، ووضع فوق رأسها فى حب تاج ملكة الحيات، وأطعمها حبة كرز سالت فوق الشفتين عصارتها الحلوة.
ساعتها ضحكت وكفت عن الالحاح وأخذت تسأله فى نزق أن يحكى لها عن الحراس ذى الشوارب المنفوشة. وعن الاطفال المصبوغة أسنانهم بالدخان وعن خبز الرحمة المغموس فى الزيت المسموم وعن (اليمك) الساخن وأرغفة الخبز الحجرية، وعن الشاويش التركى رأس الفجلة، كانت تضحك…
لكن الكلمات تحجرت فوق شفتيه وماتت. ورآها امرأة أخرى ترقد الى جواره مصغية لكل أحاديث الدنيا دون أن تفهم شيئا، فتهدم أمله فى استعادة الماضى الضائع ووجد روحه تتلاشى بين أصابعه كقطعة ثلج. فأكل لسانه!.
أسرعت تهمس معتذرة محاولة استعادة صورتها الأولى..
- لكنك رغم كل ذلك نجوت وعدت الينا منتصرا كانت محنة تجاوزها الجميع.. أذهله غباؤها المفاجئ، لماذا يظن الجميع أنهم منتصرون لمجرد مرور الايام وتحول الالم الى ذكريات؟! أهى خدعة لكى ننتظر الموت فى هدوء ولكى نتفلسف ونتشاجر ولا نعرف طعم الحب؟! استدار غاضبا وأعطاها ظهره وغرس عيونه فى الحائط الحجرى القديم الذى ينزف دما. وراح يتأمل آثار ملايين الاظافر البشرية التى حفرت معاناتها فوق طلائه الكالح، ويستنشق عبير الانفاس والآهات التى اختلطت بحجارته الباردة الرطبة عبر سنوات طويلة من الدموع والاشعار…
- لم أرجع بعد..
ويبدو أنى لن أرجع أبدا..
محصور قاربى المكسور الدفة ومحاصر،
داخل ثوبى يرقد رجل آخر..
داخل كفنى يتحرك رجل آخر..
والاحدب خلف الباب يراقبنى..
يلصق آذنيه ليسمع عما نتحدث..
الاعور يرصد خطواتى..
وسينبئهم أنك جئت الى الليلة..
وغدا سيكون عقابى أكثر قسوة..
فهنا لا يسمح بزيارة أحد منا..
ستشق دماغى أسئلة الحرس التركى..
القاضى سيجرمنى..
والرهبان سيهدر أكبرهم عمرى..
وأمى لو علمت لن تشرب من كفيك الماء..
وستخترق ضلوعى أحذية الجند الفظة..
لن أنجو حتى بين يديك.
لن أنجو رغم شفاعتك الـ……
- لا ترفع صوتك.. لا تصرخ يا ابن الكلب!..
انطفأ الوهج المرتعش وجف الزيت!..
خرست كلمات الكتب المصفوفة فوق جميع الارفف فى كل مكتبات العالم، وتوارت كل نجوم الليل ورحلت فجأة!
وارتفع صراخ الاطفال الجوعى يطارده ويسد عليه جميع المنافذ. وأخذت أصابعه تتسلل نحو عنقها العاجى المستسلم فى رقة ثعبانية، وانشق الليل عن صراخ العربة المجنونة مرة أخرى. وسحقت الاقدام الغجرية صدر الليل واندفعت صاعدة إليه السلم الحديدى فى غضب، تحاصره، وتنتزع ثيابه وتدفعه دفعا الى الصراخ رعبا وهو يهوى فى جب الحكايات القديمة – حيث الشياطين تقطع الوقت بمضغ عظام الانبياء.
اليوم الذى عاد فيه سرا إلى القرية
حتى فى تلك المدن المجهولة تشرق كل صباح شمس وتغرد أحيانا عصفورة. فالإنسان فى رحلة بحث الجوعى عن لقمة، زرع الأشجار بجوار الأفران وبؤر التأديب وبينما الأمهات يغنين للأطفال الجوعى المنتفخى البطون على أبواب القبر يظل الفقراء الموتى يحملون طوال العمر بالجنة – وحتى المقضى عليه بالإعداد ينتظر حتى اللحظة الأخيرة موعدا ينفجر فيه العالم فجأة، أو ترفض فيه الأشجار أن تتحول إلى مشانق!!
وحين استيقظ كان العالم يومها مازال نظيفا مغسولا وكانت الأشجار حليقة وآثار المطر والصمت تؤكد له أن الجميع نيام والشر الكامن لم يستيقظ بعد!
صعد الحائط وتكور فى رحم النافذة الحجرية، واحتضن بعمق عيونه الولهانة حقول البرسيم الطرية العارية، التى كانت تمتد حتى الأفق، خضراء تستحم بالندى كامرأة عاقر، دافئة النهدين تتصاعد من جسدها أبخرة الرغبة تدعوه ليذوب فى دفء الطين البكر برودة كفية المتشنجتين على صدأ القضبان. وخلال الدخان المائى المتصاعد من رئة الأرض كانت أكواخ الطين المتلاصقة المذعورة كصبايا حاصرهن عسكر جند السلطان تستيقظ هى الأخرى فى هدوء مشبع بالتوجس الريبة والخوف من المجهول.
حين عبر حواريها الضيقة المتلوية شاهد مولد نهار آخر يأتى إلى الدنيا على غير رغبة مؤكدة، وشاهد ملامح شمس أخرى تشرق خجلانه وجلة. ورأى رجالا معروقى الأكف، ممصوصى الوجنات، يعرفهم فردا فردا يغادرون بيوتهم متعبين رغم النوم الطويل يلقون على النهار نظرات غير مرحبة وغير مبالية – منذ مليون من السنين وهو يشاهدهم يستيقظون ويخرجون فى كل صباح، من نفس الأبواب الخشبية المنخفضة، إلى حيث تذيب نفس الشمس عروقهم المجدبة ذاتها فى رحم الأرض فتنبت نفس الأعناب الذهبي ونفس الحشائش.
كان يحبهم دائما من كل قلبه وكانوا يحبونه، وطوال عمره كان يعشق بكل كيانه الاندماج معهم والاقتراب منهم والتفانى فى مجاملتهم، لم يكن ينفر من رائحة عرقهم على العكس كان يجد نفسه حين يستنشق عطر اللبن المتخثر والمش القديم عالقة بملابسهم حين يجالسهم فى زوايا الزرائب الدافئة المظلمة إلا من ذبالة صغيرة تقاوم ريح الشتاء البارد. عندما كانوا يجلسون والقلق يملأ قلوبهم فى انتظار العجول الوليدة أو عندما يرهق نفسه فى تعليم صغارهم الحروف الجديدة أو يحل معهم مسائل الحساب المعقدة أو عندما يمسح فى حنان صادق أنوف أطفالهم، أو يذوب فى كفوف عجائزهم أيام صباه فى محاولة أسطورية للحاق بخيول خيالهم الجامحة أو وهو يستمتع حتى أعمق الأعماق باللهو البرئ مع شبابهم فى دكاكين القصب الشتوية وأمام مداخل البيوت.
أمام نفس الأبواب التى يعرفها جيداً توقف يبحث عن شىء مألوف وغامض وبدأ مضيعا لا ملامح له ولا هدف، فبالرغم من أنه أبدا فى مشورة الأشرار لم يسلك. وفى طريق الخطأة لم يمض، ولم يتآمر.. وفى طريق الخونة لم يفكر. واضنى جسده الفراق الطويل واحتمل وكان حصاد رحلته الأولى قبض الريح، وبضع حكايات ودراهم قليلة وأغنيات فقيرة لا تلفت انتباه أحد. لأنه لم تعد للكتب أو للقصائد أية قيمة واقفرت ساحات الشعر القديمة. وعجز الراوى العجوز عن إكمال ملاحمه بعد أن تساقطت أسنانه بفعل الرطوبة وسوء التغذية. لقد رست سفينته على شاطئ مقفر ومدينة سكرى بنشوء الاستعباد.
حاول أن يجمع معارفه القدامى، كما كان يفعل فى الماضى كى يقرأ لهم حكايات السلف والسر القديمة، ولكنهم تفرجوا على حركاته وألاعيبه لحظتين ثم مضى كل منهم إلى شواغله وهمومه، وحينما هز (كلب السباعى) الأسود ذيله وتمسح به متعرفا على رائحة عرقه (سفخته) زوجة (السباعى) البيضاء حجرا، فانطلق يعوى ناحية الحقل محتميا بالظلام. فاستدار هو يائسا ومضى إلى الساحة القمرية فلم يتعرف عليه احد من الأطفال، فقد كانت سنوات غيبته كافية لكى تنتفخ الأرحام مرة بعد مرة وتفرخ أجيالا لا يذكرها. عند بيت (عيوشة) لم يسمع غناء، ولم يشاهد لعبا، ولكن ينبوع الشعر تفجر فى قلبه لحظة شاهد عند أول الطريق الصاعد إلى البحر القديم – صديقة غارقا حتى الصدر فى طين (المعجنة) فاقترب فاردا ذراعيه فى لهفة، محاولا تذكيره بنفسه. ولكن صديقه كان منشغلا فى عراك مع زوجته الهزيلة العجفاء التى كانت ترضع طفلا (نزازا) من ثديها المترهل المتدلى كورقة الصبار، وفوق رأسها لمبة غاز عارية تقابل الريح، وترسم على الأرض والحوائط ظلالا مرعبة مهولة. ولما لم يبد صديقه اهتماما، استدار ويمم شطر البيوت وقد تدلى ذراعاه مشلولان إلى جانبيه.
من أى الأبواب سيمضى
مغلقة كل الأبواب ومنتهكة.
فتحو قبر السلطان السابق وجدوا كنزا وجماجم فتيان وصبايا كفنها فى أثواب منقوشة
حفر الجلادون القبر أما السلطان اللاحق وجود جثة سلفه
مثقوب العينين ومنتزع الأطراف بلا أكفان
أمر السلطان الآتى أن يحرق جسد الراجل كالكفار
ودعا الدهماء وزعران السوق فنهبوا كل حواصله ومخازن قمحه ..
سبع ليال أكل الناس اللحم وسبعا ذاقوا طعم الخبز الساخن دخلوا المسجد صلوا للرحمن العاطى
قالوا.. رحم الله السلطان..
ودعوا أن يهب المنان لهم كل صباح سلطانا يرحل كل مساء ….
……… ماتت أخت السلطان الراحل حزنا وكمدا وكانت طاهرة الذيل وكانت مازالت عذراء.. يوم ذبح أخوها شقت صدرها وكشفت رأسها، وجرت فى الشوارع تصرخ، وهى تدعو الله الجبار:
هو ذا يمخض بالاثم يحمل تعبا، ويلد كذبا فى الهوة التى صنعها يسقط وعلى رأسه يهبط ظلمه.. ويكون الطوفان..
اضطرب الناس وذهلوا من هول الهول، كانوا يعتقدون أن لها عشيقا جنيا من اهل سقر وأنها تعرف أسرار السحر . ولكنهم خافوا أن تغدر بمن يواسيها فتركوها لتموت حزينة. وأمر السلطان فحفروا أرض خلوتها. فعثر الجند على ثلثمائة صندوق من ذهب خالص، وأوانى فخارية متخمة بزيوت عطرية سحرية تهب الأجساد البشرية ريا أبديا. وعثروا على دهون للشهوة تذهب عقل الحكماء فاعتلق العسكر أهل البيت. ولم يعرف أحد أين مضوا بالفتيات البكر أو الأولاد.
وجدوا طن دنانير فضية عند الماشطة. وجوالين من الذهب الإبريز عند الداية والبلانة. عصروا البواب فاعترف – ودل على مكان فى خمارة، فيه ألف ألف صندوق من عملات رومية.
هذا غير ما ما وجدوه من قماش وفرش وخيول وحمير وجوارى وعبيد وطواشية وشون مليئة بالغلال وأقبية زيت تفوق الحصر.
حملوا احقاق الدهن وأكياس الذهب إلى السلطان. وأغلقت الأبواب، ومنع السير وكمن العسكر والبصاصون فى المكامن الخفية، يترصدون ضعاف الخلق كمنور شرسة تخطف وتنهب وتجرى لتثير الرعب فينسحق المسكين ويتوارى القوى.
وانتظر الناس الخير ولكن شيئا لم يتغير السلطان احتفظ بكل الميراث لنفسه وأمر الجند بغزو الأسواق. وأطلق أيديهم فى أمر عوام الناس، فاعملوا فيهم السيف والنطع وانتشرت الخوازيق فيما بين الرملية وبين القصرين، واختفى الإله الرحيم ووقف بعيدا مثلما يفعل عادة فى أيام الضيق والكرب الكافر منذ الأزل…
لم يبق أمل فى أن يتعرف أحد منهم على صوته، أو أن يتذكر أحد سحنته المتورمة من أثر أعقاب السجائر واللكمات.
فى حذر الثعلب المطارد تقدم وألصق وجهه بالباب الخشبى القديم فى أول الحارة واستنشق حتى النخاع رائحة الحنوط والتوابل القديمة .. وخطى أول خطوة فى الدهليز الرطب الهادئ الذى كان يصخب يوما بضحكات بنات وأولاد ماعز وكلاب صغيرة. فوق الجدار كان ثمة صور ونقوش يعرفها تحيط بموضع المصباح المطفأ الذى مازال الزيت ينزف منه.
عند الباب الأول جلست المرأة الهائلة ذات الفخذين – التى تفوح منها رائحة الروث الدافئ والقشدة.
عند الباب الثانى التفت إليها مذعورا وهو يسمع فى الظلام نداءات مختلطة وأصوات عذاب حاول أن يتبين مصدرها فلم يتمكن.
على أكوام البرسيم الأخضر المفروشة فى الركن البعيد استلقى وأمسك بضرع البقرة المنتفخ. ارتعش الضرع فى كفيه وتوتر، ثم انساب منه اللبن الدافئ يروى عطش الشفتين الجائعتين. اقتربت منه المرأة ذات الفخذين الهائلين عارية وقالت فى حدة: يكفى هذا اليوم – ثم اردفت فى دلال -: أذهب لا تفضحنى لو استيقظ زوجى لن يرحمنى، يقدر أن يرسل بنا إلى العرقانة أو إلى جب القلعة – أذهب، ماذا سيلم بى لو أخبره أحد الأطفال، الاعور يلاحقنى والأعرج يكرهنى، يكفى هذا .. انت لم تقفس بعد من البيضة وتطالبنى بحقوق رجل!.
يعرف أنها تكذب، تفضحها نظرة عيونها التى تلاحقه، مازالت تشتهى أن يعاود الشرب .. لكن خيط اللبن انقطع فجأة.
وحين تركته ومضت مبتعدة تجر حمول اللحم الشهية خلفها لتغيب فى ظلام الأزمنة السحيقة تحت السلم الحجرى.. احس بخوف قاتل يعصر قلبه فخار كالعجل الرضيع وانطلق يبحث عنها ليسكت صراخ معدته التى لم تشبع بعد!
حين وصل إلى السفح كانت القمة غائمة وسط سحابات رمادية وبدأ مضحكا وهو يطلب النجدة صارخا، مثل فأر غارق فى النهر ذات يوم مطير. واخترق أذنيه صياح أطفال داهمة فجأة. من الشاطئين وحاصره التهليل والضحك. واعتصر ذاكرته عندما بدأ يلاحظهم كلهم حوله يرقصون ساخرين، ليمكن واثقا كل الثقة وتمنى أن يخيب ظنه مرة والى الأبد، لكنه شاهد الأسنان التى سودها الدخان وتبين انطفاء العيون التى تنزف فى ضوء الشمس وكلها تشير نحوه فى مرح ونشوة، كانوا أمامه مباشرة وخيل إليه أن بعضهم يتوعده، فأحس وخز صدأ الحديد وشعر بخدر شديد فى أطرافه بسبب جلسته المتعبة. ولسعته برودة القضبان حين لمسها خده الأيمن للحظة. فتأكد أنهم قد لحقوا به وقبل أن يفكر فى طريقة للنجاة، كانت الأيدى القوية قد نزلت كالصواعق فوق رقبته من خلف وانتزعته قسرا من بطن النافذة المضيئة وألقت به فوق الأرض الصلدة فأعشت العتمة المفاجئة عينيه، ولم يعد يتبين أو يحس شيئا – أى شىء.
الليلة التى بدأ بها الرحيل:
كالشجرة عند مجارى الماء كانت – خضراء وخصبة لا تذبل، لا تخلف وعدا، تعطى الثمر بكل أوان.
فى تلك الليلة جاءته كعادتها دون موعد، دائما كانت تشعر بحاجته إليها، ودائما كانت تأتى اليه حين يبدأ فى التفكير فيها، كانت توأم روحه وتميمة سعده أيام صاحبته فى رحلاته البحرية منذ فكر فى مغادرة القرية للبحث عن نقطة التقاء الأرض بالسماء. وأنقذت مراكبه القديمة المتهالكة أيثر من مرة وحمته من هول العواصف ودوامات الموج والحيرة.
وقادت الطريق أمام قوافله إلى ينابيع الماء والواحات الخضر عندما حاصرته الكثبان الرملية ورياح الهبوب.
وحمت ظهره يوم اشتبك مع التنين ذى الرؤوس الأربع، وقطعت أسلاك المعتقل سرا وهربت به تحت جناح الليل، وأعطته طعاما وشرابا وسيفا. ودلته إلى درب العودة إلى الفسطاط يوم كان الصليبيون يبحثون عنه للانتقام لفتاتهم المنتحرة.
لكنها جاءت بهم فى أثرها هذه المرة.
عصف الشك برأسه لم يبح بما يوغر صدره بل حاول جاهدا ألا يترك الفكرة العابرة الشريرة تفسد فرحته بلقائها، وحاول أن يخفيها عن عيونهم عندما اقتحموا الحجرة عبر الحوائط والنوافذ المغلقة. لكن جهوده ذهبت عبثا فقد ألهبته بجمالها الرقيق وعطرها الأسطورى ونظرة التساؤل الغامضة – التى كانت ترتعش فوق جبينها الناصع فجعلت الجميع يحاصرونها بالأسئلة والعصى.
تعاظم احساسه بالأحذية الحكومية منذ وحد مينا القطرين ووضع أسس الحساب، ومنذ أجهد قائد شرطة عبد الملك بن مروان نفسه ومساعديه فى إثبات الأحاديث الشريفة وقهر المتمردين. وخيل إليه أن كل الأقدام (النبيلة) والملكية تحاول أن تختبر قدرة أضلاع قبيلته على الاحتمال وهى تجهد نفسها فى ركل منتظم ومحسوب. وحينما جروه على الأرض الصلبة الباردة أخذ يفكر فى الجثة. واعطته لهفتهم فى تبادل الاعتداء عليها فرصة لإعادة التفكير، مركزاً كل ذاكرته على أطراف أصابعه وعروق رقبتها المستسلمة النابضة باللذة.. وحاول الاحتفاظ ولو بخيط واه يربطه بالعالم الحقيقى وهو يخمن أنهم يأخذونه إلى الشارع وحاول التأكد من ذلك وهو يعد عدد المرات التى ارتطم فيها رأسه بدرجات السلم، وعلى السلمة الأخيرة بدأ يتبين ما حوله خلال غمامة حطت على عيونه، اختلط فيها الأحمر بالأزرق.
لم يكن هناك شباك مفتوح فى أى مكان حسب أوامر صاحب الشرطة الجديد. امتد حظر التجول حتى موعد جنازة السلطان الجديد ولذلك أطاعت كل الجدران وظلت صماء صامتة ممتدة حتى السماء. وأطاع الناس أوامر الجند. ولزموا بيوتهم فخلت الدنيا من أهل البيت وسكان الحارة.
غمره فيضان من أمل كاذب، حين لمح دكان السجائر الصغير المجاور لباب البيت لا يزال مضاء. لكن الأرض الحجرية ابتلعت – مثل كثيب الرمل – آثار الدم والعرق التى نزفها من باب الشقة حتى الرصيف، عندما رأى الرجل العجوز الطيب يدير ظهره لموكبهم ويتظاهر بالانشغال فى ترتيب البضاعة. وذهب أحدهم ليتأكد من جدية انشغاله ورعبه. وعاد يبتسم راضيا. ليأمرهم أن يقذفوا به إلى جوف العربة. وما إن صعدوا خلفه، حتى انطلقت صامتة وابتلعها الظلام. وعادت الحياة تدب فى البيت وفى الحارة. وغمر النور الشارع وكف البائع عن ترتيب بضائعه، وفتحت شبابيك كثيرة، وبدأ طفلان لعب الكرة فى بحر الشارع.
- كان كاذبا مشاغبا وكان يعشق الصغار.
- ذهب وهو مدين لى بسبعة عشر قرشا، ولست أدرى ممن سوف أطلبها وأن وجدت من أطالبه فلن يدفع – كنت أبيع له دون فوائد.
- رجل الدماء والغش يكرهه الرب.
- اتعرف أنه كان يعاشر أخته فى الحرام؟ وهى التى وشت به. أنا رأيتها بنفسى. الشيطان نقش على زندها صليبا أسودا.
- يمهل ولا يهمل، هذا كله لأنه لم يدخل مسجدا فى حياته – كافر – منذ اليوم سيلعب أطفالنا فى أمان.
وحملت إليه الريح الغربية عقاب الحارة وإنكارها، فحمد الله أن أحدا منهم لم يسلمه مع ذلك. وحاول أن يدافع عن نفسه، ولكن الكلمات خانته وعجز عن فتح فمه تماما. فقد كان لسانه ملتصقا بسقف حلقه من شدة العطش. وكانت أنفاسه تجاهد للنفاذ بصعوبة خلال كتل الدم اللزجة التى سدت حلقة، وجفت حول فمه لكنه استطاع أن يهمس لنفسه بلا صوت:
ورغم ذلك فإننى أستطيع التفكير فيها.
وانشغل بمحاولة تحريك اصابعه المهروسة، حين خيل إليه أنه سمع صوتا هادئا عميقا يناصره من بعيد:
ما كان يجب أن بتالغوا إلى هذه الدرجة .. لو أنه مات فسوف تكون مسئولية جسيمة من يضمن ألا تطالب القبائل بثأره، الدنيا ستقوم لوا تقعد، فالتخلص من جثة حتى ولو كانت بريئة ام يحتاج لتدبر محكم. جثة أمثاله أعطى على الإفناء من جثة السلطان لانعدام الحجة فى عالم لا ينسى الجثث، ولكنه قادر على طى صفحات آلاف الأحياء .. عليكم أن تكونوا أكثر حرصا فى المرات القادمة.
فرح كصبى عثر على أمه. وفكر أن ينهض ليزود ذلك الذى يدافع عنه بالوثائق الكافية، وليثبت له حبه للشعر القديم وللحكايات الشعبية ورغبته فى أن يجد الجميع حتى أولئك الذين ضربوه بيوتا بسيطة، ومناشف نظيفة، ولعبا. وتمنى أن يذكر له أسمه وعنوانه وأن يطلب منه الذهاب إلى شقته، ليحضر له بعض الاشياء الضرورية، التى لابد سيحتاجها فى الأيام القادمة، لكن فشله فى تحريك رأسه ناحية الصوت جعله يعدل عن الفكرة، حتى ضاع الصوت الرحيم فى ضجيج الأقدام المعدنية ورنين أصوات الآلات الكاتبة فبكى كطفل فقد النصير.
لكنهم عندما حلقوا له شعره وصوروه، أعادوا إليه الطمأنينة فقد أكد له هذا أنه مسجل بعاليه فى دفتر ما ، وأن له منذ الآن رقما واوراقا رسمية، تثبت لمن سوف يأتون بعده انه كان موجودا فليسهناك مصرى يمكن أن يكذب الأوراق الرسمية.. وبدأ القلق يزايل. واحس أن ما يجب عليه هو أن يستريح من عناء يومه الثقيل فى حماية الأحرف والأرقام الحكومية.
والحقيقة أن الإرهاق كان قد بدأ يهاجمهم، فاعتذروا له بسبب إقلاق راحته حتى هذا الوقت المتأخر، ووعدوه باستئناف شغلهم معه فى الصباح ثم سمحوا له إن ينام وأجلوا كل شىء بحماس ومضوا إلى بيوتهم.
كان على احدهم أن يتذكر شراء قلم وممحاه لابنه الصغير. وابتاع الثانى وأكل فاكهة لحما مشويا قبل أن يجامع زوجته الحامل بمجرد ولوجه باب الشقة، بطريقة أثارت دهشتها وإعجابها فظلت طوال الوقت تحذره فى دلال من إيذاء الطفل ذى الشهر الرابع.
أما ثالثهم – ذلك الذى كان قد توجه إلى دكان السجائر فقد نام ملء جفونه فى أحضان زوجة زميل لهم كان موفداً فى مهمة مماثلة فى بلد بعيد.
أما رئيسهم فقد أعطى نفسه مثل كل ليلة لسائق سيارته النوبى فى قرف وهو يلعن كل الكتب والقصائد فى أركان الدنيا الأربع.
أما (هو) فقد ظل طوال الليل ينصت إلى تأوهات الزوجة الخائنة والزوجة الحامل وقائد الفحل النوبى المتمرس. لكنه لم يستطع أن يتبين شيئا فى الظلام الكثيف الممتد حوله إلى أبعاد لا نهائية، فمد يده محاولا التعرف على موقعه من المكان والظلام بتحسس الظلمة، ولكن ذلك كان مستحيلا فكف عن المحاولة. وقرر أن يقطع الوقت فى استعادة صوت الزوجة الحامل والزوجة الخائنة ورابعهم الذى ظن انه يدافع عنه والاكتفاء بذلك كخيط يربطه بالعالم، ولكن حتى ذلك فشل فيه، إذ آلمته جراحه وشق على ظهره الممزق تحمل قسوة الأسفلت الخشن. فأخذ يشغل نفسه باستعادة ما مر به من أحداث خلال يومه المنصرم وتخيل ما قد يحدث فى اليوم التالى، لكنه عجز عن تذكر حروف اسمه الأول فكف عن أى شىء، واستسلم لشعور مؤكد بالبراءة ولاحساس ممتع بانه مجرد جزء من كتلة الظلام والصمت التى تحتويه فى أحشائها.
استجمع كل ما كان مقدرا له من قوة فى محاولة أخيرة ليدفع بجسده إلى الخارج لكنه انتفض غاضبا عندما سمع الداية العجوز تصرخ فى جزع:
رأسه كبيرة وقد ينحشر.
أراد أن يحتج لكن سيلا جارفا من القاذورات والدم الفاسد حاصره وغمره واعماه وسد أمامه السبل فعجز عن النطق. وكاد أن يختنق. لكنه لم يستسلم وأعاد المحاولة بإصرار أكبر فقد كان يشعر أن ينبض الحياة يعيض من حوله شيئا فشيئا، وأن حرارة المقاومة والرغبة فى البقاء - وهى زاد الضعفاء والمرضى – قد اقتربت من درجة الصفر. ومثل فار قرر أن يغادر السفينة التى كتب عليه الغرق، حاول للمرة الأخيرة، عندما جاء صوت الداية وكأنها تصرخ به مشجعة وهى تجذبه إلى الخارج:
- هانت، ساعدينى يا (أم هاشم)، شى الله يا (سيدى مجاهد يا ابو عبد الوهاب) ابنك وطنيبك وحامل رأيتك.
ولم ترد الأم.. فقد كف كل عرق حى فى جسده عن النبض فى نفس اللحظة التى استطاع فيها الإفلات منزلقا كالسمكة الملساء بين ذراعى الداية الضامرين.
ويذكر – أن يومها لم ينطق أحد بكلمة تهنئة. فقد كان الحزب يملأ القلوب والتسليم لإرادة الله يخرس كل شىء، فلم ترتفع زغرودة أو شهقة فرح فى أى مكان تزف البشرى بوصوله أو تهنئ أى إنسان بمقدم ذلك الذى أتى من غياهب الظلمة.
كذلك – يذكر أن احداً لم يبك. ولم ترتفع صيحة حزن واحدة تنعى تلك التى رحلت بل سمع أحدهم يقول:
- أراحت واستراحت ..
وكان هذا هو كل ما نطق به ذلمك الوجه الذى أطل عليهما بملامح محايدة والذى تعرف فيه – فيما بعد – على والده.
لم يعقب أحد على كلمات الأب فأعقب قولته بتنهيدة طويلة تنطق بطور العذاب والمعاناة.
اليوم الذى انكره فيه أهل القرية:
حكيم القلب يقبل بالوصايا وغبى الشفتين يصرع ..
أخذ يشق لنفسه طريقا وسط بحر الملابس السوداء بصعوبة. كل نسوة القرية العجائز تزاحمن على درجات السلم، وحدث هرج كثير ومرج، وارتفعت صياحات وصرخات تنادى عليه، وأحاطت به الأذرع الجافة المعروقة والوجود المتغضنة، وتكلم الجميع فى نفس الوقت، يشكون له قلة الحيلة والعجز عن التصدى لمن يسرقون اقواتهن، وأخذ الجمع يشده يمينا ويساراً والأفواه تكاد تلتهم أذنيه، والأعين تمسح دموعها فى ملابسه حتى بدأ كقديس من عصور وسيطة أو كتمثال لرب وثنى بدائى وعاجز:
سرقونا .. نهبونا .. انت وحدك من سينجدنا . ليس غير ك من يستطيع الحديث إليهم بشدة .. انت تقدر أن توقفهم عن حدودهم، وما أظلمها، كلهم لصوص وأنت تعرف .. نقلوا اللبن إلى بيت الموظفين وأقارب العمدة ما هم فى حاجة إليه. (ابن خضرة) يطلب من كل واحدة منا عشرة قروش من أين ؟.. يقول إنه إكرامية لمن هم فوق . معقول؟ هل يرضى من هم فوق بعشرة قروش؟ أنه حين يريدون، يأخذون. ولكن ليس عشرة قروش أبدا… أنه هو الذى يريدها لنفسه،. انت تعرفه . حلفناك بأمك الغالية إلا تتخلى عنا..
ولم يكن فى نيته فى أى يوم أن يتخلى عن أحد لا يستطيع هكذا كان وهذا سيكون حتى عندما صرخت فيه امه وهى تتعلق برقبته:
أنا قلت لك ولم تسمع لى، لن يقف بجانبك أحد منهم عندما ستقع .. أكثر من ذلك أنهم يلعنونك الآن، وغدا سينسون كل ما فعلت، مالك وكل هذا لست وكيل الله على الأرض الناس كالقطط تأكل وتنسى ولا يرى الواحد منهم إلا ما يمسكه بيده، والكل لا يمسك هذه الأيام إلا بجمرة نار ملتهبة تعمى القلوب. البعيد عن العين بعيد عن الذاكرة، وأنت غبت كثيرا يا ولدى، سنوات مضت منذ رحلت عنا .. والبيوت أغلقت أبوابها على أبنائها، إلا نحن مازال بيتنا مفتوحا مثلما أردت أنت ولكن لا أحد يأتى ليطل علينا، كبرت أنا ووالدك. ولا أحد يحدث أباك إلا لضرورة أو لشفقة.. أولاد عمك أعماهم الخوف لم يذكروا أحداً منا فى نعى أبيهم . وأنا عندما ذهبت لاعزيهم رغم ذلك، كل النسوة ابتعدن عنى وكأنى الطاعون نفسه .. والآن يلجأون إليك، اطردهم من هنا لا علاقة لنا بالعمدة ولا بلبن العمدة، هذه المراة حرضت بنتها على عدم مساعدتى فى الغسيل. وهذه رفضت أن تذهب بالطحين إلى الوابور والآن يأتون الينا. يا ابنى نحن خائفون عليك والدك لم ينم منذ ليال من القلق منذ جمعتين مر درويش غريب بالقرية، رجل مبروك ذهب للجامع وهويسبح الله فى كل خطوة ومع كل نفس، ذقنه كالحليب وملابسه مرقعة، من أهل الله هو، من أهل الله. . اختلف الرجال فيما بينهم، كل منهم يريد أن يأخذه للغذاء بعد صلاة الجمعة، حتى يبارك له الله فى زرعه وأولاده.
الدرويش أغمض عينيه واستخار الله، واختار حسب وحى الله والملكوت أن يذهب إلى بيت ابن عمتك. زوجته مبروكة ومن أهل الله. الخير حل ببيتهم بوصوله، ذبحوا دجاجة التهمها كاملة والأولاد ينظرون إليه وينتظرون البركات. طول السهرة أقام الذكر وتلى الأوراد وسأل عنك، كان يريد أن يغفر الله لك.. سأل عن أصحابك وعن مكان الكتب المدفونة فى حقل القطن.. من أدراه؟.. لقد سأل عن الأوراق الملصوقة على جدران الجامع توطلب تمزيقها قال أن الحكومة تأتمر بأمر الله . والسلطان خادم الدين وأنه ورجاله مكشوف عنهم الحجاب، مالنا وما لهم . البن جاءت به الحكومة، توزعه الحكومة. حتى الدرويش قال هذا، وأبوك ضربنى لاننى ستمت الدرويش وقلت أنه يسأل كثيرا؟ فكيف هذا وهو مكشوف عنه الحجاب؟. يا ابنى ارحم نفسك .. الله يرحم من يعرف قدر نفسه !!.
الناس أدرى بحالها لماذا تدلهم على طريق الشر. الدرويش قال هذا، أتريد أن تقتلنى مرة أخرى ؟؟ حرام..
أنكره اهل الله وجانبه الفرح صاحبه الشيطان وشق ضلوعه
غسل القلب المتمرد فى ماء جهنهم سرق وكذب وعاشر قوادين وكهنة جامع صبيانا ونساء من لحم وخيال لعن طريق الرب وسكب الزيت وداس الكسوة
وأبح ر ملعونا فى كتب الثورة والرحلات..
أضل الله مراكبه فى بحر الظلمات!
فى يوم الجوع الأول مرض البحارة بالاسقربوط فاكلوا الخروع وجذوع الشجر الصحراوى وبعضهم مات من الخوف، وفى يوم الجوع الثانى أكلوا قربان الرب وسرقوا زيت التقدمة ونتفوا ذقن الشيخ من الغيظ وفى يوم الجوع الثالث سكن الموج وماتت كل رياح الدنيا وانفجر البركان الساكن منذ التفاحة، فانعكست كل الآيات وظهرت آثار اللعنة.
فى يوم الجوع الأكبر ذبحوا زنجيا صادوه من الشاطئ فارتعبت جنيات البحر ولعنتهم آلهة الحجر وربات الرحمة، ولما وصلوا تابوا ورموا بعظام الزنجى إلى البحر ولكن البحر انشق وظهرت للعين الحية..
نزلوا للماء طلبا للتطهير فلم يغسلهم بحر الماء جن الربان ونتف اللحية وسلم لليأس شراعه . فى آخر أيام اللعنة شق الحوت الكافر بطن سفينتهم حتى الموت !!
القى الموج به وحيدا فوق الجزيرة الورافة الظل ذات النخل القزمى والرمل الناعم الذى يعشق أطراف أنامه. أخذ يبحث عن رفاقه الذين انتشروا يصلحون الأرض الجرداء وقد أذله الجوع وهذه الندم.
لام تبارح جثتها خياله.. حتى وهو معلق فوق صدر الموجة التى حملته إلى الشاطئ خيل إليه أنه يلمس جسدها حيا نابضا فحمد الله على نجاته.
مد ذراعيه على طولهما، وتشبت بصخور الشاطئ وغاصت أصابعه فى لارمل الذى لم طعم اللحم العض، لمحها تنظر إليه وأكد لنفسه انه يرى فى عيونها نظرة لا توحى بأى معنى شري أو وشاية .. انتظر أن تأخذ بيده، لكنها بدت ميتة فى سرير عشيقها والدماء تنحدر نحوه كالموج الصخاب.
عندما عثر عليه الشيخ الطيب ذو اللحية التى فى لون اللبن الحليب والوجه الصبوح كتبت له حياة جديدة، كما أكد له فى حنان. ولما بكى لأنه نسى من أين جاء ربت الشيخ على كتفه وطلب منه أن يحكى له عنها ..
أحس براحة لذيذة وهو يحكى من بين دموعه قصتها معه منذ رحل إلى المدينة العجيبة حتى موتها أمام ناظريه، كانت تخرج إليه فى الليل رغم الحرس الطائف بالمدينة، لكى تطعمه أو تخفيه أو تنقل رسائله السرية.
وعندما حلت سنوات القحط والهزيمة ظلت على إيمانها وانطلقت تتغنى باسمه فى كل مكان وهى تبحث عنه. ورفض أهله أن يدلوها على مكانه، ولما حلفتهم بكل عزيز رفض أهلها السماح لها بذكر اسمه أو الصلاة من أجله. أصدقاؤه اتهموها بخيانته والتجسس عليه ولكنها صعدت إليه الجبل رغم رصاص الأعداء وقاتلت معه وإن كانت غير مقتنعة بأى سبب للقتال غير أنها مريضة حبا.
احتضنه الشيخ الطيب ونصحه بالبكاء كما يشاء حتى يغسل الدمع غربته وندمه، ويزيل ذنوبه، ووعده بأن يغفر له كل خطاياه وقال له:
لست وحيدا الآن فنحن معك. فقط استمر حتى يطهرك الاعتراف، سنعد لك السفينة ونجهزها لك بكل ما ندر من ثروات وتحف وبضائع. وسنأتيك ببحارة أكثر قوة وفتوة !!.
سنوسع خطواتك ونعيد إليها الحياة، وبفضلنا سوف تدرك أعداءك وستفنيهم ومثل طين الأسواق تدوسهم، وتسحقهم كتراب قدام الريح فقط لا تتوقف عن الحديث واحملنى للشاطئ الآخر ولا تجعل ماء الجدول يلمسنى.
غسل كلام الشيخ الأحزان فأحس ببعض القوة. وبالقدرة على تحريك لسانه وشفتيه. .. وحمله على كتفيه وعبر به الجدول .. وهناك انتظر فى أدب أن يشكره ثم ينزل عن كتفيه وأن يحرر رقبته، ولكن الشيخ لم يفعل: ظنه نائما فهزه هزا رقيقا .. لكنه لم يستجب .. بدأ الشك يزحف مرة أخرى إلى قلبه وحاول تذكر أين سمع صوته من قبل، حاول أن يفك ساقيه عن رقبته ولكنه احس لهما ملمسا معدنيا، كان يصرخ من الرعب. وأصابته الهستريا وهو يستجمع قوته فى محاولة للتخلص من قبضة السيقان المعدنية، لكن محاولاته لم تفلح – سوى فى جعلها أشد صلابة وقوة حول رقبته .. بكى من الذل والقهر والعجز وقلة الحيلة.
آفاق على صوت ضحكة ساخرة ماكرة فانتفض واقشعر بدنه عندما تعرف على مصدرها .. وفتح عيونه ليتأكد، كانت رأس الأحدب تحملق فيه وقد كشرت عيناه عن ابتسامة مداهنة خبيثة، وأمره أن يستعد للزيارة.
الصباح الذى تكلمت فيه الأوراق الرسمية:
قال الأحدب مواسيا:
"يعرفون انك ضعيف الجسم ولن تصمد، لكن صمتك يقتلهم. سمعنا المأمور يبكى بدموع حقيقية من الغيظ وهو يتحدث عنك فى التليفون، رغم أنه كان يهدد بدفنك حيا فى الصحراء. اقسم لك أن هذا حدث بعضنا شاهده من الكوة السرية التى صنعها زميلنا فى المكاتب لنشاهد ما يحدث عندهم! نوع من التسلية.. صدقنى..".
عاش حياته يثق بالبشر ويشفع لبعضهم دناءة الطبع ولآخرين الخسة التى يخلقها الفقر، ويختلق المعاذير للصوص وحتى للقوادين وبائعى اتلوهم وللمحترفات لكنه أبدا لم يجد تبريرا يصلح لغفران الخيانة.
ورفض أن يصدق الأحدب خوفا من وطأة عذاب جديد.
لكنه مضى معهن فقد كان الباب مفتوحا والأوامر صريحة. وضحكة الحارس التركى كانت مفعمة بالرثاء والسخرية، فتجمع الأطفال وتسلق بعضهم السياج الحديدى يرقبونه فى صمت وحزن. ولمح فى عيونهم المريضة آثار دموع صديقة ولم ير حول أفواههم أى أثر للسخرية فأحس أن من واجبه أن يصدق مشاعر الأحدث والا فسوف يضعف وسيتمكنون منه فى غرفة التحقيق.
وحين لمح من بين حديد السياج طفلا غلبه البكاء يجاهد كى يدارى مشاعره ويمسح دموعه خائفا أن يلاحظه أحد الحراس، امتلأ قلبه بالفرح، واستطالت قامته رغم الألم الحاد فى نهاية سلسلته الفقرية.. وتدفق الشعر فى عروقه دافعا به إلى تلك المساحة التى عاش يفضل دائما أن يوزان فيها بين كآبة الحقيقة وابتهاج الحلم.
وشحنه هذا بقوة هائلة أخذ يسن عليه أسلحة صمته استعداداً لتبادل الطعنا مع ذى السترة الذهبية والشارب التترى الغاضب: ما الذى أتى بك إلى هنا؟.. من الذى أرسلكم؟ لحساب من تعملون ومن الذى دفع لكم؟ كيف يجرؤون على تدنيس مقدساتنا بأفكاركم؟ إلا تعرفون أن سلطاننا قادر على تحطيم كلا معارض فما بالك بمن يعيشون على طعام الغرباء؟ أيها الأحمق مواهبك تشفع لك فتشفع. أحلامك سهلة التحقيق فاطلب. لا تركب رأسك واركب الفرصة وإلا.. اتق شر الحليم؟.. ماذا .. ؟ ماذا قلت ؟
ظل مثبتا عينه الصامتة فى جوف عينيه الخابيتين المرهقتين من السهر والفسوق أو من ثقل العمامة ذات الطبقات. فازداد قلق المحقق، وانتابه الاضطراب فأمرهم بإشارة خفية أن يعدوه لتبادل الحديث أولا.
سحبوه على الأرض إلى حجرة التجهيز على الفور، وخلال الكوة السرية راقبه الأطفال وهو يرفض الاستجابة، بل وابتسم لهم فقد كان يعرف الآن أنه يراقبونه، تشجع بعضهم وتماسك ولكن البعض الآخر ماتت أصابعه فوق حديد السياج وتكوم البعض الآخر فى الأركان بعض صخر الجدار مرتعبا بينما راح آخرون بلا أمل يقتسمون سيجارة رخيصة ملوثة.
أعادوه فأعاد الرجل فى السترة الذهبية سؤاله، رغم أنهم ناولوه التقرير السلبى عن مدى استجابته لوسائل الإعداد الحديثة والتى قررت أنها حالة (عدم قابلية فطرية للاعتراف) وتحتاج لجراحة واستئصال عضوية. فتوجه الرجل بأسئلته إلى الحارس المدنى المرافق:
متى وصل إلى شواطئنا؟!
سافر فوق جناح الرخ إلى حافة جزر المرجان.
يحلم أن يتمرغ فرحا فوق العشب الأخر فى آخر أيام العالم.
يتمنى أن يغتسل بكل مياه الأنهار.
يشم جميع الأزهار.
ويقرأ كتب الحكمة والحب ويسمع كل الأشعار.
فمضى يأكل خبز الذرة الأسود يصعد سرا خيل العمة.
ويبول على سلم قصر الوالى.
ويطارد نحل العسل البرى
ويجرى تحت الأمطار يشم زهور البرسيم
ويلاعب أطفال الفقراء.
يقضى الليل بأكواخ منفية.
يشرب لبن الماعز فوق تلال فلسطين.
يصلى فى معبد (بوذا) عيد الفصح.
وفى الكعبة يغفو ليطالع وجه رسول الله.
وفى دلفى والأديره الأولى
يعانق (إيزيس) ويتلو كتب (الخضر).
يشرب خمرة (باخوس).
يضاجع فى ركن الزنزانة كل نساء العالم.
وحين رآها أول مرة.
كشف العالم عن أول أسراره.
فأبصر كيف تدور الأفلاك.
وكيف يعيش الشعب الرعب ويقتل خوفا.
أو جوعا أو خسفا.
انكشف الغيب فقرأ سطور المستقبل.
حرفاً حرفاً..!
قص رسول الملك عليهم كيف عثروا عليه ضعيفا، خائفا، جائعا، لا يقوى على السير عند البئر، يوم ذهبوا لتلقيح خيل السلطان – أطال الله بقاءه.
أخذوه إلى القصر ونظفوا جسده، وطهروا جراحه، وحلقوا له شعره وشاربه وأطعموه أفخر الطعام وسقوه ألذ الشراب وجعلوه يدخل المدينة دخول الفاتحين بعد أن سلموا لوالده حسب القواعد كل ما يخصه من ملابس ونقود باستمارة صحيحة.
ووعدوه برضاء السلكان وعفوه، وسمحاه بتجهيز سفينة ذات أربعين شراعاً تعود به إلى بلاده محملا بالهدايا السلطانية ومودعا بالأهازيج الشعبية، لكنه ليس وثن نعمة فقد رفض بغباء وعناد .. أن يدلنا على مكان رفاقه أو حتى أسماءهم وأعلن العصيان وانطلق يصرخ فى الشوارع الرئيسية المزدحمة بالأجانب والسائحين، مطلقا شعارات بذيئة معادية ويعلق صحفا حائطية فاسقة على جدران المدارس والمساجد. وأحدث من الضجيج والصخب ما أزعج أفراس البحر فرفض أن تصعد من البحر كعادتها كل عام لتضاجع خيل السلطان ليعم الخير ويجد الفقراء ما يأكلون .. وسمع السلطان اسمه يتردد على لسان الخلق بلا احترام، بل وفى قلة أدب، فحط عليه الهم واكتئب، ولم يعد يضحك كالعادة فى وجه وزير الدولة فقطع الخلف. وأخذ يهدد بالويل جميع الغرباء والشعراء وحراس الليل وسياسى الخيل وأرازل الناس ووجهائهم.
حاول الرجل فى السترة الذهبية جاهدا أن يظل بعد كل ما سمع محافظا على الحياد الجدير بقاضى الشرع وحامى ناموس الكون فأخذ يقضم قلم الأحكام فى عصبية وقلق ثم قال:
هل كانت كل تلك الأوراق هنالك معه ؟..
رد المخبر مؤكدا:
بالتأكيد نعم .. ولكن…
لم يعجب هذا القاضى ووجدها تعرقل فكرته فصاح غاضبا:
ولكن … لماذا ؟ …
فأخذ المخبر المتمرس يشرح فكرته فى هدوء الواثق:
يوم عثرنا عليه بعد طول بحث لم يكن معه شىء، وهذا أمر طبيعى معهم، فلو أنه كان يحمل شيئا لما أثار شك الحراس، لكن مثله صاحب خبرة قديمة يستطيع أن يخفى المنشورات السرية تحت جلده، هكذا عرفناهم دائما أنهم يتقنون علوم الكيمياء والفلك ويتحدثون مع السحب ونباتات الصبار، لكن هذا لا ينفع معنا، نحن أمكر منهم فنحن نعمل حسابهم منذ سنين طويلة .. قرون طويلة يا سيدى نعرف عنهم أكثر مما يعرفون عن أنفسهم نحن نراقبه منذ ميلاده مثل غيره يوم مولده قتل أمه، وعندما بلغ الحلم تنكر لأبيه وعندما عرف القراءة أنكر دينه. ولما أحب، تمرغ فى كنف الشيطان وبدل كلمات الله وعبد النسوة، وأن استطاع فلينكر، لكنه لا يجرؤ فتقارير الأمن وصور البصاصين وشرائط القمر الصناعى تؤكد أى يقين نتبع – الشك فى ناموسنا ضياع والتردد استسلام للوسواس الخناس ولذلك من أجل اليقين نراقب الجميع لاحقاق الحق .. فكم من الأعداء ينتظرون الصدفة لأن الصدفة على طول التاريخ كانت اعدى أعداء الدولة ومصرع السلاطين.. فاطمئن يا سيدى .. نحن لا نترك شيئا للصدفة أو للتخمين أن اول رجل قابلناه فى القرية أخبرنا باسمه .. ورائحة الزيت المحروق قادتنا إلى بيته. ورأينا ما كتبه المخلصون على الجدران نكاية فيه .. يا للعار ، سمعنا قصصا يخجل منها اللوطى .. فصائع مؤكدة، لا يستطيع حتى إنكارها .. أنظر … أنه يبتسم موافقا ويلتزم الصمت ظنا من أنه سيستعصى على التجهيز .. بينما كان لا يخجل من معاشرة العجائز لان هذا أحد مبادئهم . كما أكد لنا العمدة وهو يوزع علينا مصل القوة الذى يعتبرونه سرا…
وشاركه القاضى ضحكته طربا، وهو يناوله نصيبه، ويرقب معه فى شبق جثتها المسجاة بالمشرحة عارية تماما… كان الجسد الغض يبدو دافئا بالحياة، فأشار القاضى للمخبر إشارة بديئة اهتز لها الواقفون اهتزازة دنيئة وضحكوا طربا، وهم يفحصونها باهتمام!.
وسمعت القهقهات العابثة فى الفناء. فتجمع الأطفال مذعورين واحتموا بالزنازين. وجمع الأحدب أشياءه ولفها فى عجلة ثم دسها فى مكانها الأمين، خوفا من حالة الطوارئ التى يعرف بعريزته أنها ستبدأ بحثا عن الممنوعات وانتقاما لصمتنه الحجرى.
سرت الضحكات وآهات الرعب عبر الممرات المسقوفة بالطوب الأحمر والملطخة بزيت المشاعل وهباب النار ودماء الأسرى. واخترقت جدران القلعة إلى الحوارى الضيقة المجاورة، وظل الرب هو الآخر صامتا يرقب ما يجرى كاله وثنى قديم دون أن يثير غيظ أحد بينما اندفعت جموع الذعر والعوام ترقص فرحا فى ميادين المدينة، وهى تصرخ بكلمات فاضحة طالبة الموت لكل من يقرأ كتبا، بينما رفعت فوق أسنة الرماح وعصى المكانس أعضاء تناسلية ممزقة ودامية..
وقاد الجند – راكبون وراجلون – جماعات السوقة وهم يرفعون فوق أسنة السيوف رؤوس فتيات نوبيات وروميات ومصريات عذارى، مقطوعة الآذان يتصاعد منها بخار الدم الحار، وتنطلق عيونها – التى لم يغمضها أحد – بنظرة الرعب الأخير اليائسة، التى تزرعها المفاجأة فى عيون بريئة. وأطل السلطان المتمتع بحب الشعب فزعردت النسوة المجتمعات فوق أسطح المنازل. ولم تليت برقيات المبايعة والتأييد نثرن الورد وماء الزهر أمام موكبه، فمضى يشق الجموع بصعوبة، فى جبة سوداء ذات (طراز زركش) ووشاع أخضر وسيف يمانى، وسار بين يديه قائد عسكره الجديد الذى حل محل وزيره المقطوع الخلف وهو يحمل القبة منحنيا، يفسح الطريق للموكب الذى مر بخزانة شمايل والعرقانة حيث ذبح الأطفال وسط عاصفة الرعب، حتى وصلوا إلى باب سر القصر الكبير ليجلس مؤيدا بنصر الله والشعب على كرسى السلطنة.
والى كل جهات البر انطلق المنادون والمطبلون يبشرون بالأمان لكل إنسان.. فضج الخلق فى الأسواق والمساجد بالدعاء. وفرق السلطان الهبات والعطايا على عسكره ورجال حربه، الذين نصروه وساعدوه على قطع دابر الفتنة وانقاذ عباد الله المؤمنين وأميرهم ودينهم من الكفرة والملاحدة ومعاشرى اخواتهم فى الحرام، وأعلن السلطان أنه إذا ما استقر الأمر له فإنه سوف يجعل من أسوان جنة ويخلط ماء النيل بالعنبر ويصدر عفوا شاملا عن كل من كان السلطان السالف قد سجنهم ظلما، ووعد أيضا بتطبيب خاطرهم وبأن يخلع عليهم الخلع الشاهانية.
وعلى الفور تم إلقاء جثث العذارى والفتيان المارقين إلى الكلاب تحت المقطم، فظلت أصوات القضم والقرقشة مختلطة بصرخات ألم وآهات موت تسمع خلف الجيوشى! وكان العسكر قد عادوا برؤوس الفتنة، فصلبوهم فى الرميلة جماعة بعد جماعة بعد تجهيزهم بالخوازيق عهلى دقات الطبل والاعيب المحبظين والحواه الذين ظلوا يرقصون فى المسافة بين الخوازيق وباب القصر حتى المساء. ثم أنطلقوا مع الجند يقطعون الأشجار ويهدمون البيوت ويخربون بساتين أعداء السلطان بحثا عن المنشورات والسلاح وخوفا من التجاء المتمردين إليها.
ومات يومها خلق كثير تحت الانقاض وتحت سنابك الخيل بلا عدد.
ولكمن ما أن حل الليل وأذن المؤذن لصلاة العشاء، حتى هبت على المدينة رياح سوداء لها رائحة نتنة، ففزع الناس وخرجوا يدعونه الله ويطلبون الرحمة. وفاض الرعب فاستجاروا بالسلطان وحاصروا القصر، ولكن الحراس وجوده مخنوقا عاريا فى فراشه، فساد الذعر واضطرب الخلق كثيرا وقرع الطبل ودقت الكؤوسات.
وأدخلت النسوة الناجيات أطفالهن الناجين إلى البيوت التى بقيت دون هدم وأغلقت أبواب الحوارى التى لم تحرق …
وأفتى شيخ الجامع أنها علامات الساعة، فتاب الناس على يديه آملين فى عفو الله وغفرانه وهو الغفور الرحيم.
وحل الصمت والترقب، وساد سكون مريب شامل إلا من آهات يائية لا تكاد تبين..
وفى منتصف الليل بالضبط صرخت امرأة مصرية صرخة مرعبة، سمعها الناس فى جيزة حلوان عندما كشفت عن بطن ابنها المنتفخة فزعقت من الهول – الطاعون ..!
ارتعش قلب الرجل فى السترة الذهبية ساعتها. ونظر إلى أسيره الصامت فى حقد وهو يعجب لبقائه حيا حتى الآن.. فأسرع يغلق دفاتره ودواته وصاح فى الحارس غاضبا، وامره بالابتعاد بذلك الملعون وعزله فى زنزانة التأديب. حتى تنكشف الغمة وتتضح الأمور. ويتبين الخطي الأسود من الخيط الأبيض ويعرف الخلق إلى أين ستمضى الدنيا فى هذه الأيام الصعبة، فهو بالتأكيد لن يفعل شيئا حتى تصل إليه الأوامر الجديدة.
المساء الذى قاربت فيه الرحلة على الإنتهاء:
أحس قبضة الحارس تخف عن كاهله، لكن وقتا طويلا مضى قبل أن يكتشف أنه يسير وحده فى الدهليز الخالى. وسمع لوقع خطواته رنينا ذى صدى معدنى مخيف.
توقف يتسمع. وتأكد أن أحدا لا يتبعه بالفعل، فكف الرنين ومات الصدى ولأول مرة منذ جاء إلى هذا المكان أحس الخوف ينهش قلبه ككلب وحشى، خوف غريب بعثه الفراغ المريب الذى يحيط به، لقد كان وجود الآخرين يعطيه الأمان الذى أعطاه له صوت الآلة الكاتبة، عندما سمعها تكتب حروف اسمه فى الدفاتر الرسمية ليلة وصوله.
طارده الخوف. فانطلق يجرى مضطربا، وقد تسارعت دقات قلبه وانتفض نبض الدم فى عروق رقبته وأذنيه. وأحس بإغماء خفيف فحاول الاستناد إلى الحائط ولكنه فزع فمنظر الدماء والزيت الجاف المحترق والتاريخ الراكد المتراكم فوق الحجارة. فتماسك وظل يجرى وأقدامه تتعثر فى خوذات مهشمة، وخناجر يسيل عليها دم حار حى، وملابس ممزقة وأشلاء بشرية مهروسة.
عشيت عيونه عندما غمره النور المفاجئ فى نهاية الدهليز، فاستند إلى الجدار مضطرا، حتى تعود على الرؤية فأجال بصره فى الحوش، كان ثمة بعض الرهبان فى ثياب سوداء يذهبون ويجيئون وهم يتناقشون فى عصبية، وقد عقدت خطورة الأمر سنوات العمر فوق جبينهم وجعلتهم لا يهتمون بجثه الفتاة المذبوحة المسجاة على الصندوق.
لكن رجلا عاريا خرج من بئر المازوت وهو يلوح بذارعيه طالبا غفران المولى – فبدأ كمن يحاول أخافة الأطفال أو مشاغبة المعتوهين – اتجه نحوها وأخذ يحتضنها وهو يبكى بكاء مرا، وهو يهدد ويتوعد. وعندما انتهى من تلطيخها تماما بالمازوت العالق بجسمه أشعل فيها النار وهو يتغنى بالنشيد القومى ويدور حولها فى خطى عسكرية.
خاف أن يلاحظ رجل المازوت أن ثمة تشابها بينه وبينها فانطلق ناحية العنبر، لكنه لم يسمع صوت الأطفال يملاه بالحياة والمرح كالعادة فأحس بسكين تنغرز فى لحم صدره عندما مرت بخاطره الفكرة - هل يمكن أن يكونوا قد أغرقوهم فى المازوت فى غفلة من الرهبان المتجادلين؟ لكنه استعاد هؤلاء عندما لاحظ انه ليس هناك أى اثر لحرائق أو وقود فتح الزنزانة الأولى والثانية فلم يجد احدا ولم يتبين أى آثار لعنف فهدأ خوفه قليلا، فمع أنه كان يكره حتى الموت عيونهم اللزجة وأسنانهم التى سودها الدخان إلا أنه كان يأنس لضجيجهم حول زنزانته، و يتزود بنظرات التعاطف التى كانوا يودعونه بها كلما سحبوه إلى غرفة التجهيز أو ايقظوه فى منتصف الليالى للتحقيق معه، وأحس بشوق جارف لرؤية الأعور، أو الاحدب، أو .. حتى الحارس الذى ربما احترفت وزجته الزنا لأنه لم يستطع توفير السجائر له أثناء نوبة حراسته.
جلس على السلم ليستريح قليلا من عناء الفكرة التى راودته والتى شرخت قلبه خوفا على الأطفال. وفكر أن ينادى عليهم لإنقاذه من وحدته عندما لمح احدا الأقدام الغضة تتدلى من أحد الأبواب فى الدور العلوى، فانتابه الفزع وتحامل على نفسه وصعد السلم مستندا إلى السياج حتى وصل إلى الباب، وحاول دفعه، لكن الباب رفض الاستجابة فمد يده ليزيح ما خلفه فغاصت يده فى كومة مهولة طرية من الأشلاء والدماء، لقد ذبحوهم جميعا ولم يجدوا وقتا لحرقهم، أخرج يده من بين أسنانه بصعوبة وجمد الدم فى عروق عينيه المفتوحتين رعبا، وتحشرجت فى حنجرته صيحة ألم بربرية انطلق فى أثرها يجرى صارخا مثل كلب محاصر..
استقبلته الشوارع الخالية بلا ترحيب مثلما فعلت قريته فى زمن لاحق لكنه أخذ يمنى نفسه بلقاء بشر آخرين إذا ما ابتعد عن مركز الاحداث فظل يجرى…
وهدأ قليلا عندما أخذ يؤكد لنفسه أنه على وشك النجاة، فقط عليه الوصول إلى الشاطئ. وعندها سوف يحرق ثيابه لتراه أى سفينة تأخذه إلى بلاده وعليه الآن أن يجد الطريق إلى البحر بنفسه أن الفرصة لن تتكرر والقاضى لن يصدر أية أوامر لملاحقته لأن الأوامر الجديدة لم تصل إليه بعد والحرس مشغولون بالقتال مع الحرس.. أو بذبح الأطفال والنساء.
والهوجة قد تستمر على الاقل يوما أو يومين..
يمكن أن يفلت إلى الأبد من غرفة التجهيز.
ولمح شاطئ الأمان يقترب بشكل مؤكد. فارتاحت نفسه لأن عذابه لم يمكن سدى. وسيغفر له والده وأمه ووالدها وأهل قريته كلهم عندما يعرفون إلى أى حد احتمل حتى لا يشى بهم. وكيف واجه دون أن يفكر لحظة فى خيانة أحد مهم أو إزدراء من ضعفوا، حتى صاحب دكان السجائر والجيران الذين نهشوا لحمه، ودلوا أعداءه على مكانه، أنه يغفر لهم جميعا لأنه يحبهم.
وتأكد أن حياته لم تكن عبثا فوصوله إلى الشاطئ يمكن أن يكن مبررا كافيا لحياته السابقة، بل أن حياته سوف تتأكد ضرورتها عندما يعود إليهم ليبدأ معهم من جديد…!
سوف يتأكد من توزيع لبن المعونة على العجائز رغم انف العمدة والطبيب، ولن يستمع لاعتراضات أمه وعتابها المشوب بالأنانية وسيقنعها أن رحلته ومعاناته لم تكن من أجل أن يسمح لأعدائه بالاستيلاء على مؤونتهم، وسوف يعدها بتعويضها عن حرمانها الطويل بأن يعيد لوالده العجوز بقرته واحترامه. وسيؤكد له أن عذابه – رغم عتابه الجارح – كان من أجل تحقيق أهدافه البسيطة.
وابتسم عندما تخيل كيف ستسقبله المرأة ذات الفخذين الهائلين عندما سيدخل شارعهم القديم.. وكيف ستبسم له ثم تسبقه إلى الداخل، وكيف سيتبعها لترجوه فى دلال أن يستلقى على البرسيم الأخضر الطرى تحت البقرة مثل (البو) لتدر كل ما فى ضرعها من لبن.
واقسم بينه وبين نفسه انه سوف يفى بوعده ليتزوج البنت ذات الضفائر المبتلة لكن ينقذها من قسوة أمها وجنون أبيها، وسيفعل كل ما فى وسعه كى يمنع زوجة السباعى من (سفخ) كلبها بالحجارة عندما يجرى نحوه متعرفا عليه.
وسيشارك صاحبه القديم فى إعداد المعجنة وضرب الطوب وسيشوى لأولاده الذرة فى عين (القمينة) وسينافسه فى إنجاب الأطفال الضاحكى العيون ويعاونه فى إبعاد خطر الحرس التركى والسجائر عنهم.
تعثر فى أحد الأحجار الناتئة فانتبه إلى انه ما يزال يجرى فى الشارع المرصوف بالحجارة السوداء، وأن لوقع اقدامه ذلك الرنين ما يزال. وأن الصدى الرهيب ما نفك يطارده فأحس بإحباط هائل، وانسحب إلى حارة جانبية كى يلتقط انفاسه وليتبين موقفه جيدا وليبحث عن حماية ما …
كانت الحارة التى عرج عليها مألوفة فابتهج قلبه.
كانت تموج بالحركة والضياء وأصوات الناس فاحتضن فراغها بحب واندفع يملأ منها صدره وعينيه.
كانت الداية تجلس على حجر رشيد تبيع فولا نابتا وتنتهر طفلا سرق جبتين، وتفاصل رجلا يحاول أن يسرق منها مليما.
وقف على رأسها فالتفتت إليه مذعورة ومدت يدها، ظنها تريد مصافحته لكنها أسقطت فى كفه شلنا فشكرها وتركها ونظرة شك وغيظ تلاحقه، ودعوة صامتة تلعنه هو وأمثاله من الجبارين وآكلى الحرام.
لمح المرأة ذات الفخذين تقف أمام بيت ذو عتبة عالية، واستطاع أن يتعرف على ملامحها بالرغم من الصبغة الفاجرة التى تغطى وجهها وشفتيها.. فقد كانت تكشف عمدا عن فخذها الوردى وهى تنفث دخانا كريها كان أن يخنقه. عندما اقترب لم تسأله عن حاله ولكنها سألته عن مقدار مع معه من دراهم. ذكرها بزوجها فضحكت فى عهر .. لمح لها بيوم البقرة والبرسيم فاشمئزت، واستدعت رجلا جهما تحيط بذراعيه أساور حديدية فآثر السلامة وانطلق إلى الجهة الأخرى حيث كان الحارس التركى والقاضى ذو السترة الذهبية، يقطعان ويبيعان لحما موشوما برسوم غريبة. فانطلق مبتعدا يجرى وسط زحام الخلق وقد امتدت على جانبيه إلى مدى البصر دكاكين ملونة ومضيئة علقت على واجهاتها نماذج طائرات شحن من البلاستيك وأكياس (أنفورا) وصورة سلطان جديد يرفع صلوجانا ذهبيا.
سمع صوت ابنة عمه ذات الصدر البرى تناديه فرق قلبه، والتفت إليها فرحا ولكنها لم تعطه أى فرصة كعادتها إذ اطبقت على كفه وجذبته نحو مدود الأغنام تحت النخلة الحيانية، ولكنها لم تكن تلهث هذه المرة إذ أجلسته فى حدة، وأخذت تحدثه بكل جدية، حكت له كل ما جرى لأهله فى غيابه، وأكدت أن عليه أن يعود من حيث أتى فليس هناك الآن من هو على استعداد للتستر عليه، علاوة على أن رجال السلطان الجديد يحاصرون القرية والعزب المجاورة و(جابوا عاليها واطيها) بعد أن أودعوا والده الموريستان لأنه منذ رحل لا يكف عن الحديث عن رحلته وقرب عودته.
لم يصدق ما يسمع ولكنها ذكرته بحبها له وأنها لم تكن تطلب منه الابتعاد أكثر مما فعل إلا (للشديد القوى) ولو علم أبوها بما فعلت لذبحها فالأحوال صعبة وكل واحد مطالب الآن بإظهار ولائه بشكل ما.
لم يجد ما يقوله فاعتذرت بضرورة ألا يراها أحد معه، ودلته إلى طريق غير مأهول يمكن أن يصر به إلى حافة الصحراء وهناك قد يعثر على قافلة تجار أو عصابة مطاريد يوصلونه إلى الشاطئ، وطلبت منه أن يسرع، فالكل مشغولون بالاستعداد لحفل التتويج السلطانى. وقبل أن يرد… قبلته واختفت وسط جيوش الباعة الجائلين ومناديى والسيارات، ولاعبى الورق، والحواة الذين أحاطوا به من كل جانب، وقد أثارتهم ملابسه الغريبة، والتى تبدو كملابس سائح من بلاد متخلفة غنية، لكنهم عندما عرفوا بإفلاسه سبوه وسبوا أمه وطلبوا منه أن يذهب ليقتل نفسه غرقا فى المجارى.
لم يكن فى خطته أن ستنجد بأحد الحراس ولكن عدم وجود حرس من أى نوع، بدا له أمراً غريبا، فهو لم يعرف أن أوامر مشددة أصدرها السلطان الجديد قضت بعدم نزول الفرق العسكرية إلى الأسواق تجنبا لتحدى مشاعر العامة والاستعاضة عنهم بآخرين من نوعهم يرتدون الملابس المدنية ويمارسون كافة أعمال الناس.
لو أن امة قامت من (طربتها)، ولو أن والده عاد كما كان يطعم البقرة فى هدوء، أو لو أنه سمع بأذنيه حكم البراءة والسماح له بالعودة إلى قريته، لما رقص قلبه سروراً مثلما رقص .. ساعة خرج عليه الأحدب من وسط الزحام فاتحا ذراعيه فى ترحاب وحب.
احتضن صديقه وسار معه وقد جاشت مشاعره فلم يتمكن من النطق بحرف واحد، لكنهما تبادلا كثيرا من النظرات ذات المعنى، وتبادلا الضغط على الأذرع فى ود والربت على الظهر والخدود فى حنان.
كان الأحدب نظيف الثياب بشكل ملحوظ، ويدخن سيجارة أمريكية. ولما سأله عن الأحوال وكيف نجا من الذبحة وكيف سارت معه الأمور، طمأنه الأحدث ببساطة قائلا انه وجد عملا مريحا مربحا وأنه لن يلبث أن يشترى عربة يحولها إلى تاكسى يعمل عليه بنفسه.
تمنى له كل توفيق وطلب منه أن يساعده على الخروج إلى الصحراء حتى يجد الطريق الآمن إلى شاطئ البحر لأنه لا يستطيع التمييز بين الناس والشرطة ويخشى أن يطلب احد منه اوراقه فيكشف أمره. أو يوقعه سوء حظه فى يد الحارس الذى تسبب فى احتراف زوجته الدعارة بسبب قلة سجائره وهداياه. ثم وعده الأحدث وأخبره أن الحارس نفسه قد قتل لإهماله فى حراسته. ثم وعده أن يسهل له أمر خروجه من البلاد فهو يعرف أناسا ذوى نفوذ. وعلى الفور انطلق معه وهو يؤكد له أن رحلته قد قاربت على الانتهاء وأنه سوف يظل يذكر صداقته مؤكد أن ابن الحرام وحده – هو الذى ينسى العشرة وينكر العيش والملح والسجائر الملوثة.
ضحك من قلبه استجابة لضحكة الأحدث ومضى معه واثقا فى كل شىء.
عبر به الأحدب السوق محتفيا به، مفسحا الطريق أمامه، مبعدا عنه المتسولين والخبرين وذوى العاهات، وسقاه شرابا ملونا، واخترق معه عدداً من الدروب الجانبية والحوارى الضيقة حتى وجدا نفسيهما أمام أحد الأبواب. توقف الأحدب وأخذ هو يتأمل ذلك الباب الذى خيل إليه أنه قدر رآه من قبل، ولما التفت إلى الأحدب متسائلا، وجده يكشر عن ابتسامة خجلة وأسنان مشوهة وهو يدعوه إلى الدخول فى أدب.
انكسر شىء ما بداخله وهو ينظر إليه فى عتاب، بينما وقف الآخر أمامه ساكنا وعندما ثبت عيونه المتسائلة فى عينيه لم يقو الأحدث على المواجهة فنظر إلى الأرض والندم ينهش قلبه والخزى يلف حدبته كهالة القديسين الخونة، وأخذ يثرثر بلا انقطاع محاولا التخفيف عنه ومبررا فعلته بالانخراط فى البكاء…
قال (عفان) لـ (بلوقيا) أن الذين يتركون الندم يراودهم على إرادتهم لا يصلحون للمهام الكبيرة، أن ملكة الحيات حبيسة قفصها الآن ونائمة بفعل المخدر وبعيدة عن أرضها وناسهن ولكنها عندما تستيقظ ستعرف أنها تقوم بمهمة تاريخية عظيمة، لقد اخرجت جدتها (آدم) من الجنة ودفعته لإرتكاب أول خطيئة ولكنها ستكفر عن ذلك وتهبنا ماء الحياة، ستعيدنا إلى الجنة وسأقف على حافة الزمن أتحدى الموت والفناء.. أن كنت متعبا أبك، أرح نفسك، أن قليلا من البكاء يصلح النفوس المتعبة، وكلن يجب أن تعرف انك لم تفعل ما يخجل إلى هذه الدرجة، أن فعلتنا يبررها ما ستجنيه البشرية بسببها، وغدا نطلق سراحها بعد أن تدلنا على العشب السحرى لتعود إلى أهلها وقطيعها ومملكتها كما كانت ولكن العشب سيحملنا عبر البحار السبعة إلى هيكل (سليمان) حيث الخاتم الذى سنصل بقوته إلى ينوع ماء الحياة.
يومها سوف تتبين أن الموت والقتل يعتبر ثمنا بخسا لما سنحصل عليه سويا، العالم تغير يا صديقى ولم يعد الخط المستقيم هو أقص الطرق إلى الهدف، أن فعلتنا سوف تحقن دماء كثيرة وتوفر سنوات طويلة من الجوع والسجون والموت. وستفهم الأجيال القادمة عظمة فعلتنا حين يبررها انتصارنا الأخير..
لما أفاقت ملكة الحيات وتعرفت على موقفها فزعت وأخذت تدور فى قفصها بعد زوال أثر الخمر واللبن المسكر، وأخذت تصرخ وتتأوه فى إنكار عندما تعرفت على (حاسب كريم الدين)، فانطلقت تجلده بكل سياط العالم غير ملتفتة إلى عيونه المنتفخة بدموع الندم:
سوف تندم ندما لا يهدأ .. الخيانة لا يبررها شىء يا (حاسب) حتى ماء الخلود . فلا تصدق كل ما يقال يا فتى وتذكر أننى انقذتك من أيدى أصحابك. أخرجتك من جوف الجب عندما خدعوك، لقد أعطيتهم كل شىء فأخذوه بلا خجل وألقوا بك فى غيابة الجب ولولاى لكنت عظما وترابا والآن تسلمنى يا (حاسب)؟!
استطاع أن يرد فى وهن منتزعها حروف الكلمات من تحت ركام الأحقاب والحروب والمجاعات والأسفار الطويلة وعذاب الخيانات الأزلية:
ليس هذا إلا لوقت قصير أنها مهمة موقوتة.
ضحك ملكة الحيات ساخرة:
قالها بلوقيا من قبل يا حاسب، أنها دائما مهمة موقوتة.
كنت أعرف أن بلوقيا سوف ستطلق سراحى، إذ لا يبقى معتقل إلى الأبد. ستفتح قفصى بعد أن أدلك على العشب السحرى ولكن كيف ستطلق سراح نفسك؟. كيف ستفتح قفصك؟ أنى أتنبأ ..! سيموت صديقك محترقا بالنار يموت .. وسيعصر قلبك حتى الموت فقدان الحب وثلج الوحدة، أنى أتنبأ ..
أجهش هو الآخر فى البكاء وهو يقول للأحدب ولقائد الحرس الذى ظهر مصدراً أوامره لرجاله:
حتى ماء الحياة لا يبرر الخيانة!..
وحاول الأحدب أن يبتعد عن طريق الحرس ولكنهم لم يتنبهوا إليه، أو هكذا بدا الأمر عندما وقع تحت أقدامهم المهرولة المندفعة، فصرخ وحاول أن ينبههم لحقيقة أمره ولكن أحداً لم يلتفت إليه، إذ كما قيمة جثة جديدة موالية وقد سحقوا آلافا مثلها منذ الصباح الباكر؟!
وزحفت ملايين الفئران والحشرات على جسد الأحدث المهروس تحت اقدام الحرس، بينما تقدم منه قائدهم ذى الوجه الثعلبى:
ها قد عدت مرة أخرى، ألم أقل لك أن كل شىء يمكن أن يضيع فيما عدا الأوراق الرسمية وكم ابتعلت كثبان الرمل المتحرك أمما وقبائل حاول أن تنقذ نفسك، كل السفن ستغرق وسط البحر المجنون كن أنت العاقل.
تحصن خلف جدار الصمت فانقض عليه حارس حليق الرأس بلا شوارب واقتاده نمن قفاه إلى قاض فى سترة موشاة لكن هذا ما أن رآه حتى صباح بهم فزعاً:
لا تحضروه إلى هنا إلا بعد تجهيزه تماماً، أنا لا اريد أن أكرر أخطاء الأحمق الذى كان يتعامل معهم قبلى.
عندما سحبوه على الأرض نحو غرفة التجهيز أحاط به جمع من الأطفال الجد المشوهى الأسنان ذوى العيون التى يسيل منها الصديد، فتطلع إليهم مستنجدا .. لكنه ابتلع ابتسامته…
فلم يكن على وجوههم أى أثر للتعاطف..
اللحظة التى أنهى فيها الجلاد مهمته:
وها هو الآن بعد أن حاولوا هدم جدار الصمت الذى احتمى وراءه بلا فائدة – يرقد فوق الرمال يحاول جاهدا إقناع نفسه. أن كل ما مر به حدث فى عصر آخر.
لكن الأيام تسربت من بين أصابعه الدامية ولم يستطع استرجاع حديث القبرة أو مشهد البقرة، فقد كان الجلاد طويلا كالنخلة له أذرع كالصوارى وأسنان كالمدارى – واقفا يسد الأفق بصدره الأملس الصخرى يخيف الطيور ويجعل السحب تعبر إلى أوطان أخرى . ولم يعد هناك مفر .. العصر أصبح عصراً آخر، والناس لم يعودوا كما عرفهم قديما، ولابد أن تحمل رأسه إلى السلطان. ولن يعرف أحد حقيقة ما حدث له أبدا . وعليه أن يستسلم وأن يغفر للجميع حتى للأحدب. فإن أحدا لم يسلمه وهو وحده المسئول – هو الذى أراد وكان له ما أراد تماما – الذين أحبهم لم يريدوا حبه والذين وهبهم عمره سخروا منه.
لكن الأحدب كان يبكى وابنة عمه كانت صادقة فى جزعها عليه؟. نعم.
رأسه تكاد أن تنفجر وهو لا يريد أن يلاحظ أحد من رفاقه المنتشرين على وجه الصحراء لحظة ضعف عارضة تبدو عليه .ز أكثرهم لن يفهم أسباباً، وبعضهم سوف يؤكد أنه كان يتنبأ له منذ البداية بما عرفه عنه الآن فقط.
إن موته الآن لن يضير احداً، وعليه وحده تقع مسئولية جعله ذا مغزى لأطفاله ولمن سوف يأتى بعده. تذكرت كيف أراحت جذور البوص ذلك الحلاق من القلق وأعفته من الفزع أن هو أفشى سر مولاه السلطان الذى كانت له أذنى حمار.
أخذ يزحف فى بطء وهو يبذل جهدا خارقا بسبب جراح جسده الخارج تواً من غرفة التجهيز وهو يدير عينيه بحثا عن بعض شجيرات البوص ليحفر إلى جوارها ثم يهمس إليها بما يملأ صدره مثلما فعل الحلاق.
وخيل إليه أن كل ما مضى من حياته يساوى تلك اللحظة التى عثر فيها على دغل بوص خلف عين الماء يصلح بشكل كاف مبررا لفرحته الأخيرة.
كاد الحلاق يموت بالسكتة القلبية من ثقل السر الذى يركز كالحديد المصهور على صدره لولا أن همس به للجذور والطين الصامت.
وصحيح انه قتل بعدها بحد السيف وقتل معه عدد كبير من الصبية الذين صنعوا صفافير من ذلك البوص أذاعت السر عندما نفخوا فيها. ولكن ماذا يساوى ذلك وقد عرف الناس أيامها وتيقنوا أن لسلطانهم أذنى حمار.
أسرع يحفر بجوار سيقان البوص كمن يحس أنه لم يعد فى العمر بقية وقد تعلقت كل آماله وأحلامه بأطراف أصابعه. وأخذ يهمس للجذور بكل ما يثقل صدره وكلما حفر حفرة مد رقبته وأفرغ فيها ما عذبه من أفكار وأحداث ورؤى. وأخذ يتنقل بسرعة ويحفر بجنون وقد ذابت روحه كلمات واشعاراً يسكبها فى الجذور.. وأخذ يحلم بأول طفل سيأتى إلى هذا المكان ليصنع صفارة من هذه السيقان المقدسة مؤملا أن تذيع عنه ما أودعها من أحلام رحلته العجيبة..
ظن الجلاد الذى كان يراقبه من بعيد أنه يحفر الأرض محاولا الهرب، فأسرع إليه وانتهز فرصة استطالة رقبته داخل الحفرة الأخيرة فأهوى بالبلطة فى قوة …
وتدفق دمه يشخب فى دفقات ملات الحفرة وأخذت تصعد فى بطء خلال عروق البوص الخضراء فتشيع فيها حمرة وردية.
وعندما رفع الجلاد الرأس المقطوع عاليا تأوهت جذور الشعر الكثيف تحت وطأة أصابعه فصاح منتصرا معلنا إنهاء المهمة .. ساعتها لمحت العينان المفتوحتان – من بعيد – جوقة من (المغنيين الشعبيين) مقبلة عليهم فى طريقها للاحتفال بتنصيب السلطان الجديد .. وسمعت الأذنان الداميتان بكل وضوح طلبهم الأذن من الجلاد بالسماح لهم بالحصول على بعض سيقان البوص الوردى ليصنعوا منها نايات جديدة تليق بحفلة التتويج.
وعندما سمح لهم الجلاد، خيل إليه أن ابتسامة عريضة ارتسمت على محيا الرأس المقطوع، الذى كان فى مواجهة وجهه تماماً، وهو يثبته فوق رأس حربته استعدادا لكى يتقدم به الركب الملكى …..
كتبت فى النصف الأول من عام 1973 وتمت فى يناير 1979 – القاهرة
حركة فنية تعنى: فنان، وجمهور، وناقد .. فى حالة من التفاعل المستمر تجعل من الحركة وحدة لها من القيمة بقدر ما يعتمل داخلها من تعدد العناصر، سواء توافقت العناصر فى شكل تنويعات قيمة ما، ام تنافرت فى شكل جدلى يضمن لها الحيوية ويوفر لها التقدم عند كل مرحلة من مراحل الجدل.
والعملية الفنية فى النهاية تهدف إلى استحداث شكل جديد، هو بالضرورة مميز متفرد. ينبع من تفرد الفنان المبدع، وتتبدى عظمته من كون هذا الفنان نتاج حقيقى لمجتمع، يتسع عقله ووجدانه لتناقضاته، ولخريطته الجغرافية والاجتماعية لفنونه ولتاريخه منذ بدأ الإنسان يحبو على أرضه إلى اللحظة التى يبدع فيها علمه، مؤملا استشراف المستقبل، فبغير إطلالة على المستقبل لا يكتمل الشكل، وهدفنا فى النهاية هو الشكل، لا الشكل الفارغ الآلى، بل الشكل العضوى الممتلئ المعبر الذى يطرح اللحظة/ الواقع من خلال الماضى واحتمالات المستقبل.
ومحاولة الوصول إلى مثل هذا الشكل بمثابة محاولة التشبث بالحياة، وظهوره فى مجتمع ما دليل على حيوية هذا المجتمع وتجدده. ومن هنا كانت جسيمة هى: مسئولية إبداع الفن، ومسئولية تلقيه، ومسئولية تناوله تناولا نقديا، لكن علينا ممارسة هذه المسئولية ببساطة وعفوية، كتناولنا لعملية الشهيق والزفير، فالأشجار تطرح ثمارها.. هذا حقها، ونحن نجنى الثمر، وليس فى الطبيعة من قانون يحرم ثمرا.. هذا حقنا، وليرحم الله آدم عليه السلام.
وأهمية الشكل تتضح من خلال تحليل موضوعى دقيق للجانب الفيزيقى من العمل الفنى بغية إلقاء الضوء على التجربة الخيالية الشاملة المصاغة فى حدود هذا الجانب الفيزيقى، الذى يصنع لها إطارا هو إطارها.. شكلها الخاص بما الذى يعطيها ملامحها ويحدد حدودها .. تلك الحدود التى تجعل التجربة على شمولها فى متناول حواسنا.
وما دام الأمر فى النهاية محدد – رغم شموله – بما يمكن لحواسنا أن تدركه من عناصر سمعية أو بصرية، فلا قيمة للألوان أو للخطوط أو للمساحات أو للكتل أو للنغم أو للإيقاع أو للوى أو للكلمات إلا فى حدود ما تثيره فى ذهن المتلقى من إدراك واع لشكل من أشكال تجربة الإنسان مع الزمان أو المكان أو مع شكل مركب من بناء فى الزمان وبناء فى المكان.
وتجربتنا الخالصة مع الزمان تتضح أكثر فى فن الموسيقى، وتجربتنا مع المكان تتضح أكثر ما تتضح فى الفنون المكانية من نحت وتصوير وعمارة، أما تجربتنا مع فنون الكلمة.. تلك الفنون التى قوام بناءها الفيزيقى هو الكلمات، على اعتبار أن الكلمة فى أصل تلقيها عنصر سمعى، فهى تجربة فنية فى ذروة تعقيدها، حيث هى فى مرحلة الإدراك الحسى تجربة مع الزمان ومع المكان فى آن واحد، فبناء المكان – كما ترسمه الكلمات – فى حالة حركة، وما دام هناك حركة فهناك تعامل مع الزمن، والكلمات مقروءة أو مسموعة تتلقى كلمة أثر الأخرى، وفى هذا تتابع زمانى وقع عليه البشر بمختلف الإيقاعات، وصاغ من أحرف الكلمات شتى التآلفات والتنافرات، منها ما نظر له، ومنها ما لم ينظر له، بل ومن الإيقاعات ما كون البحرين واليونانيين القديمين الديثيرامبى والإيامبى اللذين صيغ منهما قسمى الإيقاع الثنائى والثلاثى فى السلم الموسيقى الغربى التقليدى الممتد فى تاريخ الموسيقى حتى نهاية الرومانسية.
والشكل الفنى يصاغ من عناصر فنية، منها المحسوس المباشر، ومنها المدرك حسيا، ولا يختلف الأمر فالمحسوس المباشر يتحول – فى لحظة تلقيه – إلى مدرك حسى فى ذهن المتلقى.
والعناصر الفنية لا تقتصر على الألوان والخطوط والنغمات و .. و .. بل تشمل أيضا الأفكار والذكريات والتوقيعات، ولا قيمة لأى من تلك العناصر بمعزل عن بقية العناصر فى الشكل، فكل العناصر فى تفاعلها وفى تآلفها وفى تنافرها فى شكل متماسك يتفجر عنها. قيم، منها ما يعرف بالقيم الموسيقية، وهى تلك القيمة الجمالية الخالصة النابعة من تفاعل الكثرة فى واحد، هو الشكل الفنى الذى يجعل للعناصر قيمة أكثر من قيمة مجموعها. 3ثم قيم أخرى تعرف بالقيم التمثيلية، وهى القيم التى لها ما يماثلها فى الواقع من شخوص وأحداث وافكار وقضايا.
وما دام هدفنا فى النهاية هو تكامل الشكل الفنى، فعلى القيم المطروحة فى العمل الفتنى بنوعيها (موسيقية وتمثيلية) أن تصنع كيانا واحدا متكاملا لا نقصان فيه ولا زيادة.
وما دمنا نقرر أن الهدف هو تكامل عناصر العمل الفنى فى وحدة من خلال تفاعلها العضوى، أى من خلال تأثير وتأثر كل من عناصرها بالعناصر الأخرى حسب موقع كل عنصر واتجاه تأثيره، فيمكننا أن نشرع فى تحليل الجانب الفيزيقى من العمل من خلال أى من عناصره، أو من خلال أى من قيمة الموسيقية أو التمثيلية التى تتفجر عن تفاعل هذه العناصر.
لكن..
بعد قراءة جادة لرواية: "هكذا تكلمت الأحجار !" تحار فى كيفية تناولها، الرواية كما هى مطروحة عبارة عن أجزاء عشرة متتابعة، وهى بهذا محاكاة لشكل المتتابعة الموسيقية، تلك المعزوفة التى تتكون من عدة أجزاء مختلفة لكل جزء فيها ما يعبر عنه، فى النهاية هناك خط عام يربط بين ما يعبر عنه فى كل الأجزاء، ومثال على هذا متتابعة "صور فى معرض" لـ "موسورجسكى"، و"تكريس الربيع" لـ "سترافنسكى"، فى الأولى يختص كل جزء فى المتتابعة بالتعبير عن صورة فى معرض للصور، والفاصل بين كل جزء وآخر هو: موتيفة تعبر عن سير الرائى لمعرض من صورة لأخرى، وفى المتتابعة الثانية مجموعة من الصور الموسيقية تسجل تتابع طقوس الاحتفال بالربيع فى رقصات متتابعة (كتب للباليه) متصاعدة حتى تصل إلى ذروتها عند الموت رقصا. والإيقاع فى الأولى تقليدى، ثنائى فى جزء وثلاثى فى آخر، أو مضاعفاتهما، والموتيفة التى تفصل بين جزء وآخر ثنائية الإيقاع والإيقاع فى الثانية "تكريس الربيع" غير تقليدى متنوع ومختلف أى غير محدد ومشرب بكثير من الإيقاعات البدائية، ومختار حسب مقتضيات الصورة، أى هو إيقاع الصورة بالفعل.
و "هكذا تكلمت الأحجار!" تقترب من أسلوب وشكل "تكريس الربيع" فهى أجزاء يرتبط كل منهما بالآخر فى سياق روائى، والأجزاء ليست مجرد صور تنفصل كل صورة عن الأخرى ولا يجمع بينها غير تجاورها فى معرض. وإن كان الإيقاع الغالب على أجزاء لا يتسم بالتباين، وذلك نتيجة حتمية للصوت المفرد الذى يرى لنا كل الصفحات، وهو صوت الراوى.
قد يكون هذا أسلوبا فى التناول.. لكن …
بصمة الزمن جلية واضحة، ومحاولة بناءه مؤكدة فى هذا العمل، ومحاولة بناء الزمن هى محاولة تركيبه، محاولة جمع شتاته فى الماضى وفى المستقبل بدافع من اللحظة الحاضرة، أى العملية فى النهاية هى عملية بناء الحاضر (الواقع)، هى محاولة لم الشتات فى بناء، وتجاوز اللحظة خلال البناء إلى الأسطورة التى هى تخليد للصورة فى الزمن أو .. وبشكل آخر محاولة قهر الزمن بإعادة تركيبه فى شكل مطلق وثابت. ووسيلة فن الأدب فى بناء الزمن هى التوقيع عليه بالصور، فالصور – وهى جانب تشكيل المكان فى فن الأدب – ليست غير علامات على الزمن تعطيه ملامحه وتمنحه الثبات وتحتفظ بالتجربة الحياتية فى شكل مركب من شكل زمانى وشكل مكانى وتلك المحاولة جلية واضحة فى الرواية. بل هى جوهرها، والا ما الذى يمكنه أن يتبقى من تجربة ذلك المناضل الذى تعلقت رأسه تبتسم بيد الجلاد بينما تزفه نغمات صفافير البوص الملونة بدمه، ومثل هذا البناء لا يحتمل التجزىء حيث تتركب كل الأزمنة من خلال لحظة خاصة تتمتع بإمكانية النفاذ منها بحرية إلى ما نريد من أزمنة تتجسد فى صور، وتتوقف سرعة سيال الزمن على سرعة تغير الصور أو مقدار الحركة داخل الصورة.
لكن الرواية بتجزئتها إلى هذه الأجزاء تحتم علينا تناولها كمتتابعة، فنقوم بتحليل كل جزء من أجزائها فى محاولة إيجاد ما يربطه ببقية الأجزاء ثم نناقش مدى طواعية هذا الشكل المطروح فى الاحتفاظ بالتجربة فى كيان واحد يتجاوز بها الواقع المعاش إلى الواقع الاسطورى الذى يساهم فى تشكيل وجدان الأمة.
الليلة التى سبقت وصول الجلاد
تلك بداية الرواية، أول ما يطالعنا هو صوت الراوى يحكى عن الشخصية المحورية فى العمل، أو فى الحقيقة الشخصية الوحيدة المبنية بناء نفسيا وفكريا جيداً، وما عداها من الشخوص فى خدمة بناء هذا النموذج الذى يحكى عنه الراوى.
(… كان يحاول جاهدا إقناع نفسه، أن كل ما مر به حدث فى عصر آخر .. لكن عقله كان عاجزا فى اختراق ركام الذكريات والسنين …).
الراوى فى هذه الفقرة يقدر لنا أن الشخصية فى محاولة لاستعادة زمن آخر، وهى تستعيدة بصعوبة وعناء:
(.. عجز العقل عن اختراق ركام الذكريات والسنين .. ).
إلا أن الشخصية لديها حد أدنى من القدرة على استعادة ذلك الزمن، تتمثل هذه القدرة فى النجاح فى التشبث (بوهم بارق …)، ذلك الوهم كان البداية، ووصفه بأنه (…بارق) فى موضعه تماماً، فما تستعيده الذاكرة يبدأ ببرق خاطف يكشف عن جزئية من الصورة ثم تتكفل المخيلة ببناء بقية الصورة على أساس موقع الجزئية، واحتمالات ارتباطها ببقية الجزئيات فى الصورة.
وحين سقط على الذاكرة ذلك (البرق الواهم) أو (الوهم البارق) أضاء فيها بقعة هامة، هى فى الحقيقة البذرة التى نمت عنها كل الأحداث التى نستشفها من خلال رؤى شتى تنتمى إلى الواقع الداخلى للشخصية ..تلك البذرة هى بذرة التمرد، وضعتها القبرة فى قلب الطفل:
(ذات صباح قديم، سمع "قبرة" تحرض قلب طفل على التمرد …).
وكان التمرد عل الواقع/ الزمان:
(… أنت تتصور أن الحاضر باق إلى الأبد….).
وكان التمرد على الواقع/ المكان:
(… العالم أحلى بكثير من الخرابة المغمورة بضوء القمر، وأربح من حوش "القواسم" المزدحم بالأطفال المرضى ……).
ويهتز (… إيمان الفتى بقدرة أشجار التوت)، ويتأمل بقلب منشق بنبت بذرة التمرد التى زرعتها القبرة (… ما حوله من عجز…)، ويستجمع قواه فى المساء ليعلن تمرده لأبيه العجوز فى لحظة ممارسته العجوز لبؤس واقعة:
(.. وقال لأبيه العجوز الذى كان مشغولا بإطعام بقرته الوحيدة الهزيلة وهو يصارع آهة ألم غير منظورة:
لم أعد أطيق كل هذا القدر من الدناءة … سأرحل بالتأكيد).
ومضى يحلم، ويبشر مغنيا فى:
(.. المقاهى ذات المقاعد الحجرية.. اشعاراً عن طريق الفجر المضيئة ..)
لكنه يغنى للغارقين مثل أبيه فى:
(.. ظلام لزج من ليل القرية الكافر الذى لا يرحم ولا يحرر أحدا من هموم التفكير فى اليوم المضنى القادم…).
وكان يغرق معهم فى سحب الدخان الرخيص، لكنه يتسلل طاويا قلبه الصغير على نبتة التمرد التى زرعتها القبرة، يتسلل إلى الصبايا والأطفال، يحلم ويبشر ويغنى:
(.. الكلمات الغامضة ذات الجرس الأخضر…).
وفى فقرة يوحى وضعها من الصفحة بتميز صوتها (غير انه نفس الصوت الذى يحكى لنا منذ البداية) يسرد الراوى علاقة الشخصية بالناس والأشياء، ويقرر فيها أيضا استجابة الجميع له وقدرته على قيادتهم صغاراً (.. لغزو جنينة أبو الحسن..)، أو دفعهم صبيانا (… لعبور البحر الصغير إلى …)، أو تحريضهم رجالا على (… اسقاط العمدة و …)، ومع ذلك يقرر أن: (… الأبواب المغلقة لم تكن سمحت بعد بإمكانية التجاوز …) ذلك أنه لم يكن مدركا لـ: (… سر قوة الكلمات التى تملك طاقة الحركة والولوج …) رغم نجاحه فى تجميعهم بكل أعمارهم قائدا ودافعا ومحرضا .. تناقض غريب !! لابدان يسفر عن جديد فى النهاية.
وحين كان الليل مخيفا لم يجد الأمان سوى فى أعين الأصدقاء، وهو يحس بوخز الندم لأنه أسلم لهم نفسه بسهولة فنام (…تاركا نجمته الصديقة تغيب عن المربع الحديدى…) وكأنه فى كل ما مضى من أول الرواية يحتمى من واقعه المرير فى السجن بالنجمة التى:
(… منذ زمان بعيد … بعيد تعود أن يراها تسبح كل ليلة فى نفس المكان وفى نفس الموعد..).
كما كان يحتمى فى عيون الأصدقاء، فهو لم يكن يجد الأمان إلا:
(… بالنظر فى عيون أصدقاء الضاحكة الذابلة، ….).
ورغم تلاشى النجمة ( .. فى الأبعاد اللانهائية.)، إلا أنها تنقله بشكل من أشكال التداعى إلى يوم دعاها إلى منزله، فاستجابت حتى النهاية التى لم تصل إلى ذروتها لاقتحامها بـ:
(.. صوت الأقدام الغجرية والأحذية الثقيلة…).
وعند هذا ينتهى هذا القسم من التداعى بإسراعه:
(.. مخفيا وجه حياته المشوة تحت الغطاء الميرى الممزق – وينتخب …).
ليبدأ قسم آخر من التداعى بـ:
(… قذفت به أمواج الذكريات …).
فى مكان آخر غير الزنزانة بنافذتها ذات المربع الحديدى، وفى زمن آخر – يبدو أنه لا حق لزمن التداعيات السابقة – غير الليل بنجمته المواسية والمفجرة للذكريات والتداعيات والحلم.
الزمان الآن هو النهار، والمكان فوق حبات الرمال الباردة بين أشجار الخروع وشجيرات السيسبان، وظلال رفاقه ذوى الأيدى المرفوعة فوق الرأس، والنخيل القزمى المتناثر منفيا فى الصحراء ، فى هذا الزمان وهذا المكان:
(.. قذفت به أمواج الذكريات الكئيبة …).
فتذكر أنها:
(… هجرته بإرادتها الكاملة ومضت خلف حلمها القديم بالثوب الأبيض والتراتيل …).
ذلك لـ:
(… تحترق فى حمام البيت الآيل للسقوط، وسط بخار الماء الساخن والصابون الرخيص وهى تنادى عليه …).
فانسابت دموعه، وانتقلت به ذكرياته من خلال النخيل القزمى فى الصحراء إلى نخلة عمه (الحيانية) التى تنقله إلى ابنة عمه الفائرة ذات الشعر الخشن والعين الحولاء الشبقة والصدر البرى والعرق النفاذ واللهاث الباكى والآهات المتألمة ودقات القلب المتوترة… ثم تتركه ولديه احساس أنها لم ترتو بعد وينتابه الخجل والإحساس بالفضل لعدم ارواءها.
وبانتهاء هذه الفقرة يكون قد استعاد واقعتين الأولى واقعة تركها له، والثانية ذكرى عدم قدرته على ارواء ابنة عمه الفائرة، وتعد كل واقعة تنويعة على الأخرى، وكلا الواقعتين تلعبان على حبل الفشل والإحباط، مع اختلاف العلة فى كل منهما، ففى الأولى كان لعجزه عن تحقيق حلمها القديم بالثوب الأبيض والتراتيل، وهى تناديه، وفى الثانية، مع ابنة عمه، كان عجزه لصغر سنه ألا أنها تعفو عنه آمرة أن يساعدها فى سقى البهائم ونقل السباخ، والمرأتان الأولى وابنة عمه كانتا تحلمان بالارتواء، وكان فشله الحقيقى فى عجزه عن تحقيق هذا الارتواء.
وننتقل إلى الفقرة التالية، وفى بدايتها:
(يصعد مرة أخرى مكررا محاولته .. الدائبة إلى الولوج من النافذة الوحيدة ذات القضبان.. يسقط ويعاود التسلق .. وأدمت الحجارة أظافره، وخذله الجوع…).
أى انه بعد استعادة واقعتين للفشل فى الفقرة السابقة نجده بعدهما مباشرة – وفى بداية هذه الفقرة – يكرر محاولة الصعود للولوج من النافذة الوحيدة ذات القضبان غير أنه:
(… ارتمى ضعيفا عاجزا، وتكوم تحت الغطاء…).
دافنا عينه فى:
(… أحشاء الفراغ المظلم الضيق المحصور بين ساقيه و…).
وينـــام:
(… ارتعشت أجفانه المبللة ثم هدأت متعبة…..).
وحين ينام يكون الحلم، الحلم برائحة القواقع والأعشاب الجافة والجميز الباط والزيت المقدوح وبدموع البنت (نجاة) إزاء اعترافه بحبه لها، والرغبة فى انتشالها من واقع مرير، وتحديدات وتشكيك أخته فى قدرته على هذا، ثم هربه من الجوارى الروميات اللائى يلقيتن بظلهن على المرأتين التى فشل فى تجربته معهما فى الفقرة السابقة، وكان هربه من الجوارى الروميات إلى الصبايا الكادحات يطارحهن الغرام خلف كرسى الوالى وتحت سلم قصر الخليفة وفى الجرن و…. ويختلط كل هذا بـ:
(.. صرخات المهزومين فى الشعاب الملتهبة حول "البردويل" و "عيون موسى" مختلطة برائحة المحاصيل المتعفنة والمياه الراكدة والبول الدموى ..). ثم تطارده الغولة . تستميله.. يميل .. تحيل بحارة سفينته إلى خنازير، وتملاها بالجرذان، فيصرخ، يأتى إليه الحراس الصلعاء .. يطاردونه .. ينس فردة حذائه و.. يعاقب ويضرب ضربا مبرحا.
فانتازيا الرعب، غير أنها مرتبة بعناية فائقة تتنافى مع منطق الحلم خاصة إذا كان تحت وخز:
(… الجلد القديم المحترق فوق ظهره وأكتافه .. رغم أنه لم يعد يحس ألم عصى الخيزران الرفيعة أو السياط…).
ويحل فى نهاية هذا الجزء:
(… مع صمته الصمت على العالم …)
و……
(… لم يعد يسمع من مكمنه سوى صوت طحن ضلوع بشرية وانسحاق فظلم أثرية ونشيش شواء لحم حى. وصرير أبواب عتيقة، يفضى الواحد منها للآخر ليفسح المدى الرنين سلاسل ذى صد عميق الأبعاد يبتعد فى رتابة حزينة …).
تلك نهاية ممتدة إلى ما لا نهاية، يمهد فيها الصمت العميق لرنين سلاسل ذى صدى عميق يبتعد فى رتابة لم يكن هناك داع لوصفها بـ (.. حزينة ..) فالصورة الصوتية والمكانية تنطوى على ما هو أعمق وأشمل من الحزن كثيرا.
الصباح الذى حل قبل بدء الرحيل
كان هذا الصباح هو:
(… يوم جاءوا به إلى هذه المدينة العجيبة ذات الأسوار العالية ..). وكان فى هذا الصباح عاريا تماما، تلقى ملابسه إلى الأب قطعة .. قطعة، والأب يحادثه من خلال دموعه حديثا يبعد كثيراً عن لغة الأب المتوقعة، لكننا نتعرف فى الحديث على الصوت الواحد .. صوت الراوى الذى يحكى لنا منذ البداية، فجاءت حديث الأب ممنطقا، مرتبا، ذكيا، رصينا، حافلا بالثقافة التاريخية، مليئا التشبيهات والاستعارات البليغة، وهذا كله لا يمكن أن يشكل حديث مثل الأب الفلاح البسيط الكادح:
(.. نحن الكوبرى الأزلى الذى يعبر فوقه الملوك والغزاة وتمر فوقه العصور..).
(… لا نحلم أكثر من المعقول فأحلامنا مشانقنا….).
(.. الكوبرى يا بنى لا يتمرد على الأقدام …).
وإن كان يحمل وجهة نظر مثل هذا الفلاح التقليدية إلى الأمور، وبالتالى فهى وجهة نظر نمطية:
(.. الوالى اطيب خلق الله….) (.. ظلمت اخوتك البنات من سيتقدم اليهن ..) (… يا ليتنى قد ربيت بهيمة ….).
ويلاحظ أن التركيب اللغوى فى الجملة الأخيرة – وفى غيرها – أعقد من البساطة المفروضة فى حديث الأب، ولنعود إلى بساطة لغته فى هذه الجملة علينا أن نحذف (يا .. كنت قد …) لتصبح (ليتنى ربيت بهيمة) وهذا ما يؤكد لن أنه صوت الراوى حتى وهو يعبر عن وجهة النظر النمطية لمثل هذا الأب.
وتنتهى الفقرة الأولى بانتهاء حديث الأب لابنه، وتطالعنا الفقرة التالية بسرد طيب حساس للموقف بين الأب والابن، ثم وصف لرحلة الأب، وللأحاديث التى دارت بينه وغيره من الشر فى الحافلة، والتى دارت بينه وبين نفسه، لكنه سرعان ما يترك الراوى الحديث للأدب، وهذه المرة يأتى حديثه بسيطا آسيانا مقنعا يلونه الندم إلى حد اتهام نفسه بالخيانة:
(… فأنا عندما أخذته إليهم مختاراً رأيت فى عيونه نظرة عرفان…).
لكن يبدو أن الراوى مصر على اقحام نفسه فى كل شىء، فيطل برأسه خلال حديث الأب:
(… أقسم لكم جميعا أن رئيس الحرس التركى ضحك فى وجهى وربت على كتفى ووعدنى أن يعتبره فى مهمة رسمية بلا بدل سفر بسبب نفاذ البند …).
وفى آخر فقرات هذا الجزء يروى لنا الراوى كيف صعد الأب العجوز سلم منزله، وذكريات مع طفولة ابنه على السلم، ثم الموقف بينه وبين زوجته معروضا بمنتهى الدقة والطبيعية والحساسية، وينتهى مع انتهاء الفصل بهذه الجملة:
(.. وارتمى على صدرها منتجا كطفل يرجو المغفرة عندما بوغت مبللا ملابسه صباح العيد …).
وكان يمكن أن ينتهى هذا الجزء بعد كلمة (منتخبا)، لكن أحداً لا يعرف لم أصر الراوى على إعطاء تشبيها للموقف (…. كطفل يرجو .. الخ) فحد من إيحاءاته ودلالاته، وشكل زيادة وترهل لا داعى تلها، كما أنه نسب شيئا فى العمل لشىء خارجه من خلال عملية التشبيه بشىء خارج عن الموضوع، وهذا يؤدى إلى التشكيك من قدرة البناء على الاكتفاء والتكامل.
ومن خلال سرد الراوى لحوار الأب مع الناس فى الحافلة، وكلهم من الكادحين – عدا واحد تبدو عليه خيلاء النعمة لا يلتفت إلى حديثه الأب – وتتوالى عدة صور تعد كل منها تنويعة على الأخرى إلا أنها تضيف إلى سابقتها جديداً.
الأولى للأوراق ذات الطلاسم والرموز الدالة إلى طريق مدينة النحاس والبللور، والمحاولة هنا من خلال الخرافة.
والثانية لشاب مقطوع أصابع اليد يحكى عن الاختيار الذى يكلف صاحبه قطع الأصابع، ويكلف البعض الآخر رجولتهم، وفى فقدان البعض الآخر لرجولتهم إعادة لصورة الشاب لكنه فى هذه المرة مبتور الرجولة لا الأصابع. تغير طفيف فى الصورة الأولى أعطانا الثانية، والمحاولة هنا من خلال إرادة الاختيار.
والثالثة لأسوار عليها رؤوس فرسان مقطوعة من جدر الرقبة، والمحاولة هنا من خلال فعل إيجابى كان عقابه قطع الرقبة.
والرابعة للأب يبحث أسفل الأسوار عن السعفة الخضراء التى تفتح السبيل خلال الجدار، لكن كفه لم تلمس بسبب الظلام سوى:
(… بقايا حيوانات ميتة وبشر محتضرون ونفايات عضوية نتنة …).
وهذه الصورة الرابعة تلم شمل سابقاتها من الصور فى بانوراما حافلة بالإصرار على المحاولة رغم الإحساس العميق بالضعف، والإصرار على المحاولة فى هذه البانوراما يحتد فى الماضى، ويتدرج – من خلال حركة المرئيات داخلها – عبر زمن بعيد لأن ما تحت السور:
(بقايا حيوانات ميتة، وبشر يحتضرون ونفايات عضوية نتنة) أى بقايا حافلة بالجسد البشرى فى مراحل مختلفة من الحياة إلى الموت، إلى بعد الموت عند التحلل إلى نفايات عضوية نتنة، بالإضافة إلى استدعائها فى المخيلة للجسد العارى الــ:
(…… ممزق …… محترق الجلد فى أكثر من مكان بسبب بقايا السجائر وكان دامى الوجه ..).
وكان الأب خلال كل هذا يحتضن كومة ثياب هذا الجسد الذى يعيد مرحلة من مراحل هذا التحلل القابع على جانبى الأسوار.
المساء الذى حل بعد بدء الرحيل
يبدأ هذا الجزء بسرد إجراءات الحبس، ولأن الراوى ما زال يحكى لنا، يتدخل فى كل شىء دون أن يدخل فى علاقة مع أى عنصر من عناصر العمل، فهو غير محايد أبداً، كما كان يجب أن يكون كمجرد وسيلة فنية للعرض لا علاقة لها بشىء آخر، فحيادة يجعله ليس بجزء زائد عن العمل يجب استئصاله (وما يستتبع ذلك من استئصال العمل كله لأنه بأمله معروضا بصوته)، وإنما يجعله كالعامل المساعد يؤدى وظيفته فى التفاعل ويخرج من التفاعل كما هو، ومادام لم يتأثر فهو بالضرورة لم يتأثر لأن التفاعل تفاعل عضوى، أى أن وجوده كعدمه بالإضافة إلى تأديته لوظيفته الفنية، كما هو مطروح فى معظم الأعمال التقليدية التى ينبنى زمنها وفقا لبناء الزمن الواقعى فى تسلسله وأهمية مبدأ العلة فيه.
ويطالعنا فى بداية هذا الجزء دليل على عدم حياد الراوى فى الفقرة التى تبدأ بـ:
(ونبهت ضحكات الأطفال مشاعر الوافد الجديد وأيقظت بقلبه حلما قديما حبيبا إلى قلبه فدار بعينيه يائسا يبحث عنهم – إذا كان يحلم طوال عمره بأطفال يضحكون من القلب).
يقصد بالأطفال المساجين.. هكذا يسميهم، ويعد هذا تدخل منه، والغير معقول أبدا أن يبحث السجين فى ضحكات المساجين عن ضحكة طفل، ليس هذا فقط بل ومن القلب!.. تلك الفقرة غير المنطقية سببها تدخل الراوى.. الذى عاد فى نهايته يقول:
(التفت إلى الحارس مستئذنا لكنه كان مشغولا عنه بالتهام فخذه إنسان آخر …).
عملية التهام الحارس لفخذة إنسان لا مبرر لها على المستوى الواقعى، أو على المستوى الفنى، لأن الجزء من بدايته مسرودا سردا واقعيا لا مجال فيه لفانتازيا أو مبالغة، فعملية التهام فخذة إنسان ليست فى النهاية سوى تشبيه - قد يتسم أولا بالمبالغة – لموقف الحارس من سجين آخر، والتشبيه بالإضافة إلى أنه ممجوج كأسلوب قصصى لأنه كما سبق القول ينسب شيئا فى العمل إلى شىء خارج العمل، بالإضافة إلى هذا يعد تدخلا من هذا الراوى فى سياق الحدث.
وهناك مثل آخر لأسلوب التشبيه فى وصفه لحجرة الحبس:
(… وجسد له الصمت الثقيل ثخانة وصلابة الجدران، وملأته الرطوبة والعفونة التى تنضح من مسام الصخر الجيرى إحساسا عميقا بالمسافات والأزمنة وكأنما هذه الحجرة الضيقة قد انفصلت عن العالم الملموس كفقاعة حجرية سقطت فى القضاء اللانهائى،،..).
فى الجملة الأولى نجد الصمت الثقيل يجسد ثخانة وصلابة الجدران، كما تجسد ثخانة وصلابة الجدران ذلك الصمت بل وتعطيه وزنا (صمت ثقيل)، وهذا ليس بمطروح فى الجملة إنما توحى به الجملة إيحاء جليا خاصة من خلال إعطاء الصمت صفة (الثقيل) التى هى صفة أكثر انطباقا وانسجاما مع الجدران، وفى الجملة الثانية نجد الرطوبة والعفونة التى تنضح من – ليس الجدران هذه المرة – بل الصخر، واستخدام لفظة صخر – بديلا للجدران فى الجملة الأولى - يعطى درجة جديدة من درجات إحساس السجين بالجدران، فلم تعد الجدران جدرانا، بل استحالت من خلال إحساسه بها إلى صخر، هذا الصخر ينصح رطوبة، وطالما هناك رطوبة فهناك مع الزمن عفونة، ومادام هناك عفونة فهناك قديم قديم… قديم .. عتيق يمكن أن يولد إحساسا مؤكدا ببعد الزمان والمكان من خلال (الصورة/العلامة) على الزمان، وتصير الصورة فى جملتها ترديدة لصورة العفن حول الأسوار فى الجزء السابق.
هذا شىء طيب وأسلوب بليغ وصل بنا والسجين إلى الإحساس الشامل والعميق بالمكان كتوقيعات، على الزمان، ودخل بالصورة فى علاقة جمالية مع صورة سابقة لها، دون ذلك التشبيه:
(… وكأنما هذه الحجرة قد انفصلت … الخ).
وبعد ذلك يحكى لنا الراوى ضرب الحارس للسجين فى غرفة السجن:
(…… وانهال عليه حتى كومه أسفل الجدار ثم جذبه بعنف إلى وسط الحلبة فانطلقت الجوقة تدور حوله فى خطوات منتظمة بطيئة وهم يرددون اناشيد وثنية غامضة جعلت العجائز عند طرف المدرجات البعيدة يمسحن دموعهن تأثراً ويرسمن علامة الصليب بينما علت هتافات المزدحمين فى الجانب الآخر من المقصورة الإمبراطورية…).
وهو بهذا شبه غرفة السجن بملعب رومانى يعج بالعجائز ورجال الحكم و… و… كل هذا دون مبرر فنى، ويضحى الأمر فى النهاية – فى غياب المبرر الفنى – مجرد تشبيه، فهو وإن كان تشبيها جيدا إلا أننا يمكن حذفه بسهولة لنكون أكثر تركيزا دون فقدان للدلالة وفى نهاية هذا الجزء بعد أن صار وحيداً:
(… اكتشف أن وجه نجمته يطل لأول مرة من بين القضبان فابتسم فى وهن. ولكن الفرح غسل قلبه لما تبين أن نظرتها الرقيقة الحانية لا تحمل أى معنى من معانى الاحتقار..).
ألم يكن كافيا أن: (يبتسم فى وهن)، أما وأن يغسل الفرح قلبه فى هذه اللحظة، ولسبب غريب أن للنجمة نظرة رقيقة وأيضا حانية و… ولا تحتقره !، فهذا غير منطقى.
ويعد هذا الجزء صورة بانورامية لإجراءات تسكين السجين فى زنزانته معروضة فى تماسك، وبتركيز، ومن خلال جزئيات تشكيلية يتحول العنصر المحسوس فيها (الكلمات) بسهولة وتلقائية إلى مدرك حى (خطوط وكتل وألوان و…)، مثل صورة الممر والجدران والأحدب و.. بقية الصور التى لقوة الطبع فيها لا تحتاج إلى إلقاء الضوء عليها.
وهذا الجزء لا يضيف شيئا إلى حركة الحكى فى العمل، بل هو يعد إبطاء لجريان زمن الحدث لثبات الصورة البانورامية ككل رغم تلك الحركة الفوارة داخلها.
اليوم الذى جرت فيه الواقعة:
يسرد الراوى علاقة (الشخصية) بالفتاة، وتطور هذه العلاقة، مطعما سرده، ومجملا أحداثه بمويتفات أسطورية ودينية لا يمكن أن يكون لها من دلالة أكثر من التشبيه لأن تلك الموتيفات لا تشكل خيطاً فى نسيج العمل ككل، وهذا يؤكد عدم حياد الراوى بالإضافة إلى عدم فاعليته.
ويأتى حديث المحقق منسجما مع شخصيته لولا نهايته:
(… وكثيرا ما فقدت أوراق وأوراق منذ عرف المصريون المقابر…).
التى نتعرف فيها على صوت الراوى الذى لا يكتفى بها، بل ويضيف إليها فقرة كاملة تعد تعقيب عليها:
(وكم ابتلعت كثبان الرمل المتحركة أمما وقبائل .. وبشموا من عطف السلطان).
تلك فقرة لا تضيف شيئا، ولنا أن نستأذن فى حذفها من اجل سياق أكثر تماسكا.
ويضيف هذا الجزء إلى عنصر الحكى فى العمل، ففيه كيف تعرف عليها، وكيف تم القبض عليه، وكان الاهتمام فى هذا الجزء بدلالة الأحداث، ورسم الصور الدالة خاصة تلك التى تتداعى فى الحلم بينما:
(من جميع الجهات زحفت نحوه ملايين الحشرات المفترسة).
غير أن اعتراضنا على هذه الصور يخص أسلوب عرضها فما هكذا تتداعى الصور فى الذهن سواء كان فى حالة يقظة أو حلم.
اليوم الذى عاد فيه سرا إلى القرية.
لو بحنا عن بداية حقيقية لهذا الجزء سنجدها عند:
(وحين استيقظ كان العالم يومها ما زال نظيفا …).
أم الأسطر السابقة على هذا، والتى يبدأ بها الجزء، فهى مقدمة لا ضرورة لها، وقد قمنا – ويمكن لمن يريد أن يقوم – بتجربة حذفها فلم نخسر شيئا.
ومن ممكنه فى رحم النافذة الحجرية سرح بخياله إلى القرية، وجال فى حواريها، ووقف خلف أبوابها المغلقة، وتعامل مع أهلها، وأنكره الجميع، وفاضت نفسه بقصيدة جيدة، لا نقصد جودتها فى حد ذاتها، بل نقصد جودتها كنتاج منطقى لسرعة خياله فى دروب القرية، وأيضا كمقدمة، ونقله لتجوال خياله فى دروب الأسطورة، والتاريخ، بشكل مركز، موحى، رقيق ودقيق، ليس فقط معبرا عن الواقع بل متجاوزاً له، ويسلمنا تجوال خياله إلى المرأة ذات الفخذين التى تفوح منها رائحة الروث الدافئ والقشدة، وكان الموقف معها بمثابة فانتازيا للجنس، وللأرض، وللأمومة، وللحنان، ولليتم، وللإخفاق، وللرى، وللعطش، وللجوع، بالإضافة إلى قيمة العجز التى تذكرنا بموقفه مع ابنة عمه عند مدود العنزة.
(… أنت لم تفقس بعد من البيضة وتطالبنى بحقوق رجل !!).
وفى النهاية يحس وخز صدأ حديد القضبان على النافذة، ويشعر بخدر شديد فى أطرافه بسبب جلسته المتعبة فى رحم النافذة، وقبل أن يفكر فى النزول من النافذة ينزله منها الحراس بطريقتهم.
جزء طيب مكتوب بعناية، لكن السؤال الهام هو حول وظيفته فى العمل ككل وهناك عودة – على المستوى الواقعى – إلى القرية فى الجزء (اليوم الذى انكره فيه أهل القرية)، وفى الجزئين يتعرض لإنكار أهل قريته بصور شتى ولأسباب متباينة، ويمكن اعتبار كل من الجزءين تنويعة على الآخر، ولو سألنا عن مبرر لموقع الجزء (اليوم الذى انكره فيه اهل القرية) لوجدناه يجئ كتسلسل حدثى للجزء الذى يسبقه والذى يفصل بين الجزئين الخاصين بالعودة إلى القرية، فنهاية الفصل السابق عليه موت الام لحظة ميلاده، والجزء التالى له الخاص بالعودة إلى القرية يبدأ وسط الملابس السوداء.
الليلة التى بدأ بها الرحيل
فاصل سردى عن واقعة القبض عليه، والخيانة غير المؤكدة للفتاة، ثم موقف الناس من القبض عليه الذى لا يختلف عن موقف أهل قريته منه حين عاد سرا بخياله على القرية، ثم عرض لوسائل التحقيق معه، وأخيراً ينام ليلعب لنا الراوى على أحلامه، هذه المرة حلم بعملية ولادته وموت الأم أثناء ذلك، وما يستتبعه فى الجزء التالى من صعوده الدرج وسط الملابس السوداء.
ولنا على هذا الجزء نفس الملاحظات – على كثير من الأجزاء – حول تدخل الراوى فى الحديث دون أن يتفاعل معه، محددا بذلك للرؤى عارضا لها بصورته، وخياله الخاصين.
اليوم الذى أنكره فيه أهل القرية:
يواصل فى هذا الجزء الحلم الذى بدأه فى نهاية الجزء السابق له، يصعد السلم بين النسوة لابسى السواد، يتزاحم عليه الجميع شاكين العمدة والسلطة والظلم، ثم يجئ صوت الأم صارخا فيه أن يبتعد عنهم، وحديث الأم طبيعى وطيب جداً.
وعقب حديث الأم فقرة شعرية تعلق على الموقف رغم أن الموقف لا يحتاج إلى تعليق، ,أن احتاج فمعنى هذا أنه لا يعنى دلالة، وفى نهاية الفقرة الشعرية سطرين:
(… وأبحر معلونا فى كتب الثورة والرحلات.
أضل الله مراكبه فى بحر الظلمات……)
ولأن الفقرة الشعرية تنتهى ببحر الظلمات فقد جر هذا إلى الفقرة التالية، وهى فقرة معروضة بأسلوب الأسطورة، وبصرف النظر عن مصدرها، وعن مدى مطابقة ما توحى به من معان لم تتعرض له الرواية، إلا أننى لم أستطع تبيان صلتها بما قبلها ولا بما بعدها، وكأنها مقطوعة من مكان آخر هو مكانها، لتسكن فى هذا الموقع من البناء الذى ليس بموضعها، بدليل أننا لو حذفناها مع الفقرة الشعرية السابقة عليها لن يتأثر بناء الرواية بشكل عام، بل يكون قد تخفف من بعض ما يثقل عليه ويجب حذفه، وفى محاولة للربط المتعمد تجئ الفقرة التالية لتلك الفقرة الأسطورية وتبدأ بـ:
(ألقى الموج به وحيدا فوق تلك الجزيرة الوارفة الظل … الخ).
أى موج .. وأى جزيرة .. من اين نبعث مثل هذه الرؤى ؟! ليس لتداعى الصور منطق، بالتأكيد لتداعى الصور منطقة، ذلك المنطق الذى يعد بديلا لمبدأ العلة فى تتالى الزمن الفيزيقى، ثم حديث فى نفس الفقرة عن جثة الفتاة، وإحساس بالشك فى أنها لم تخنه:
(… لمحها تنظر إليه وأكد لنفسه انه يرى فى عيونها نظرة لا توحى بأى معنى شرير).
وينتهى الحلم الذى بدأ فى نهاية الجزء السابق:
(وأفاق على صوت ضحكة ساخرة ماكرة … كانت رأس الأحدث تحملق فيه .. وأمره أن يستعد للزيارة…).
ورؤى هذا الحلم، محتوى هذا الجزء، فى حد ذاتها، شديدة الروعة والمهارة عدا ما اقترحنا حذفه.
ولا نعرف سببا لتجزئة رؤى الحلم على هذا الجزء، ونهاية الجزء السابق له.
الصباح الذى تكلمت فيه الأوراق الرسمية.
هو جزء خاص بالتحقيق مع السجين، والتحقيق فى هذه الرواية مرادف للتعذيب، ومن ثم كان هروبه من بشاعة التعذيب إلى خيالات لاهثة تتجسد فى صور من التاريخ كمعادل لما يحدث فى الواقع، وفى نفس الوقت مبررا له، ومتتبعا لجذوره، كل هذا من خلال تعاطف النزلاء، وفى النهاية عودة إلى المحقق بسترته الذهبية بفقرة واقعية فى نهاية الجزء، يأمر فيها المحقق بوضعه فى زنزانته حتى صدور أوامر جديدة من السلطان الجديد الذى حل مكان السلطان القديم الذى مات، وكان موته وتكريس خليفته مجسداً فى فانتازيا تاريخية كان يلوذ بها خياله من وطأة التعذيب.
وهذا الجزء يعطى معلومة هامة تضيف جديدا إلى عنصر الحكى، هذه المعلومة تتمثل فى إحلال سلطان جديد وما يتبع ذلك من ترقب لما يمكن أن يحدث.
المساء الذى قاربت فيه الرحلة الأولى على الانتهاء
يبدأ هذا الجزء بنفس الرؤى الفانتازية لكن دون مبرر فنى، فالصوت مازال صوت الراوى، غير أن الصور – رغم غياب مبررها – معبرة عن الواقع بل مطابقة له تماما من وجهة نظر ما… نزلاء السجن نكل بهم بوحشية، وجثة الفتاة مسجاة على صندوق، ورجل يصعد من بئر مازوت يحتضنها، ويشغل فيها النار، ويدور حولها بخطى عسكرية منشدا النشيد القومى، ويصبح الخروج من السجن سهلا بعد تغير الظروف، فيخرج لتستقبله الشوارع بلا ترحيب، لكنه مفعم الأمل، يرقب لقاء المرأة ذات الفخذين الهائلين، ورغبة فى زواج البنت ذات الضفيرة لينقذها من قسوة أمها وجنون أبيها، وسيتأكد من: (توزيع لبن المعونة على العجائز رغم أنف العمدة) و(… يعيد لوالدعه بقرته واحترامه …) و (………) معادلات كثيرة لمواصلة الكفاح، و………
(تعثر فى أحد الأحجار الناتئة…).
وتعثره فى أحد الأحجار الناتئة تمهيد طيب لصورة لقاءه مع شخوص سبق أن تعامل معها… فلاحظ أنها … كلها … قد تغيرت، تحولت المرأة ذات الفخذين إلى مومس، والدكاكين إلى بوتيكات، وابنة عمه تلقاه ولا تأخذ إلى مدود العنزة بل توصية بالابتعاد، ولاحظ أن العسكر تغيرت هيئتهم، وصاروا مدنيون يؤدون كل الأعمال، واختلطوا بالناس بحيث لا يمكن تمييزهم، وكلها معادلات لتغيرات طرأت فى عهد علقت فيه صورة السلطان الجديد يرفع صولجانا ذهبيا، وتلى لقطة السلطان بصلوجانه مباشرة مقابلة للأحدب الذى يعامله بعطف، عارضا مساعدته إلى أن يسلمه مرة أخرى للشرطة وهو خجل باك عليه، والأحدب هو ذلك العنصر الذى لم يتغير فى الصورة، يكفى هذا مبررا لكل ما حدث من تغيرات، ثم بودون مبرر فنى تعرض أسطورة عفان وحاسب كريم الدين كتنويعة على خيانة الأحدب، ولنصل منها إلى حكمه:
(- حتى ماء الحياة لا يبرر الخيانة).
وينسحق الأحدب تحت أقدم الحرس الجدد تحقيقا لنبوءة الحية، وفى النهاية يطالعه وجه محقق جديد أكثر خبرة، ونزلاء جدد ليس على وجههم أى أثر للتعاطف.
وبهذا الجزء صورة فريدة… تصلح ككود الكل هذا الجزء .. هذه الصورة هى: (جثة الفتاة مسجاة عارية على صندوق .. يطلع رجل من بئر مازوت .. يحتضنها ويبكى، ثم يشعل فيها النيران و …).
اللحظة التى أنهى فيها الجلاد مهمته
آخر أجزاء الرواية .. يطالعنا بنفس الحس الذى بدأ به:
(… يحاول جاهداً إقناع نفسه أن كل ما مر به حدث فى عصر آخر ….).
وهى نفس الجملة فى بداية الجزء الأول، لكن بين الجملتين كان التغير الذى طرأ عليه:
(… لكن الأيام تسربت نم بين أصابعه الدامية ولم يستطع استرجاع حديث القبرة أو مشهد البقرة …).
تلك البقرة التى كان يود أو يعيدها لأبيه ليرد إليه كرامته. وهى نفسها التى كان الأب يطعمها حين أعلن تمرده فى مواجهته، وسرعان ما يعرض علينا علة هذا التغير: فالجلاد له بالمرصاد، بالإضافة إلى أن:
(… العصر أصبح عصرا آخر، والناس لم يعودوا كما عرفهم قديما، ولابد أن تحمل رأسه إلى السلطان، ولن يعرف أحد حقيقة ما حدث له أبدأ …).
وعليه فلا مفر من:
(…… أن يستسلم وأن يغفر للجميع حتى الأحدث. فإن أحداً لم يسلمه وهو وحده المسئول هو الذى أراد وكان له ما أراد تماما…).
وبناء على هذه المسئولية كانت هناك مسئولية أن يجعل كل ما حدث فى إطار:
(… إقناع نفسه أن كل ما مر به حدث فى عصر آخر …)، يجعله: (.. ذا مغزى لأطفاله ولمن سوف يأتى بعده…).
ويتم هذا للرواية من خلال مونتاج متوازى لصورتين متطابقتين تماما، وهما بأسلوب عرضهما هكذا يعملان كجملة مؤسيقية تعزف فى درجتين مختلفين فى نفس اللحظة:
قصة الحلاق الذى يكتشف السر.. السلطان بأذنى حمال .. والسر ثقيل ثقيل وخطير ينوء به الحلاق بالسر، فكان أن نفث بالسر للأرض وجذور البوص، وجاء من صنع نم البوص صفافيراً تذيع السر مع كل نفخة فى البوص، وكان موت الحلاق بالسيف، وكان موت الشخصية بالبلطة، وابتسامة الراس على رمح فى مقدمة الموكب التى تعزف له صفافير البوص فى أيدى الصبية يوم تتويج السلطان الجديد.
ما سبق كان محاولة لتناول العمل كما هو معروض فى أجزاء متتالية، وأسلوب عرض العمل فى أجزاء فرض علينا أن نتناوله بنفس الأسلوب، لكنه فى نفس الوقت أثار بعض التساؤلات: أولهما وأهمها عن الراوى وأهميته، وأثره فى البناء ككل، ومدى الإمكانية والحرية التى يتيحها لصياغة العمل، والراوى فى هذه الرواية ليس عنصرا حقيقيا من عناصرها لأنه لم يدخل فى علاقة مع أى عنصر آخر من العناصر: شخصية كان أو مكان أو زمان، ولأنه ليس بعنصر من عناصر العمل، وتقتصر وظيفته على مجرد الحكى كما فى الرواية التقليدية (الراوى الذى يعرف كل الأشياء فى الأرض والسماء)، فالمفروض أن يكون محايداً ليرينا الأشياء على حقيقتها، ولينمو التفاعل بين الأشياء تلقائيا وطبيعيا دون تدخل يحد منه، أو يوجه اتجاهه بشكل متعسف، أو يصبغ العناصر بصبغة واحدة، فيميع الشكل فى النهاية.
لكن فى هذا العمل – كما بينا فى كثير من المواضع – لم يكن الراوى محايداً، فطغى صوته على كل الأصوات، وصار ما يسمع غالبا هو صوت الراوى، حتى أنه كان يتحكم فى طريقة تداعى الصور، فيحكم ترتيبها، ويتقن صياغتها بشكل يتنافى مع منطقها.
وبذكر تداعى الصور – واضح أن العمل يعتمد على هذا، وفيه – حقيقة – إطلالة على زمن يحاول جاهدا أن يتشكل من أجل الاحتفاظ بالتجربة، ومن أجل إعادة بناء زمن قد مر ويظن أنه (… حدث فى عصر آخر ..)، غير أن المحاولة كان يعوقها هذا الراوى الذى لم يترك للشخصية أن تعرض لنا ذهنها بكل ما يعتمل فيه من حركة المكان فى الزمان .. أقصد توارد الصور كتوقيعات على زمن فى محاولة للتشكيل ليلم بشتات التجربة فى شكل نستعيد فى تلقية التجربة نفسها دون عناء ممارستها، بالإضافة لاى أن عملية بناء الزمن فى شكل فنى هى بمثابة تجاوز (اللحظة/الواقع) كنتاج للماضى ودلالة على المستقبل إلى زمن أسطورى ينفذ إلى وجدان المتلقى، ويعد إضافة له، وامتداداً إلى آفاق اشمل وأرحب.
وليس بهام أن يعرض العمل بصوت واحد، لكن بأى صوت؟ علينا أن نختار، وبديهى أن نختار أهم الأصوات، وهو صوت الشخصية نفسها التى تعانى التجربة، والتى كانت معظم أجزاء الرواية تداع لخواطرها، وأحلامها، ولاوعيها، ووعيها فى يأسها، وفى أملها، وفى ابتسامتها المعلقة على الرأس المعلقة على حربة تتقدم موكب تتويج السلطان الجديد.
وأى لحظة هى: (اللحظة/الواقع) التى يمكن من خلالها أن ننفذ إلى هذا العالم الرحب المعروض فى الرواية، بديهيا هى أهم اللحظات وأخطرها تلك التى يمكننا أن ننفذ من خلالها إلى ذلك العالم، والرواية تحفل بالكثير من هذه اللحظات، فلحظة الابتسامة على الرأس المعلق فى حفلة التتويج تحمل هذه الإمكانية، ولحظة دفن السر جوار جذور البوص تحمل إمكانية أخرى، ولحظة (إقناع نفسه أن كل ما مر به حدث فى عصر آخر) تعد أيضا إمكانية و… فى كل صفحة من صفحات الرواية تقع عينك على مثل هذه اللحظة الهامة، والتى يمكن من خلالها النفاذ إلى ذلك العالم الممتد فى الزمان، وفى المكان إلى البعيد، لو نفذت الرواية من أى من هذه اللحظات التى تعانيها الشخصية إلى ذلك العالم لانمحت الفواصل والعناوين بين الأجزاء، ولامتلأ وجداننا بذلك الصوت الهام الذى حاول الراوى أن يشوش عليه فلم يستطيع، ولصار لدينا فى النهاية شكلا فيزيقيا محددا ينقلنا إلى شمول التجربة ورحابتها دون معاناة منا فى سبيل لم شتات هذا العالم ثم الاستمتاع بمعايشته.
وكان علينا أن نقارن هذا العمل الفنى بغيره من الأعمال الفنية الأخرى مثل: (المحاكمة) لـ (كافكا) و(الطرق على الباب الرمادى) لرمسيس لبيب خاصة فى المشهد الأخير من الروايتين، من حيث صياغة الصور وطرائق تركيبها، وبعض أعمال جمال الغيطانى فى استلهام الرواية لمشاهد التاريخ المصرى، ورواية نجمة أغسطس لصنع الله إبراهيم فى أساليب استدعاء التاريخ وإجراء الجدل بينه وبين الواقع، وكذا بأعمال (بيللا بارتوك) فى كيفية استلهامه للتوقيعات الشعبية، وكذا أعمال (ماك شاجال) وعبد الهادى الجزار… الأول من خلال عالم الفانتازى ورموزه الأسطورية، والثانى من خلال اعتماد أبنيته على التيمات الشعبية والأسطورية وكذا أسلوبه فى صياغة الشكل ككل…
فإلى دراسة أخرى عن: "هكذا تكلمت الأحجار" لنوفيها حقها بوضعها فى مكانها من تراث الفنون.
وأملى من كل ما سبق أن يتقرب هذا العمل الفنى – المثير للاهتمام – من ذهن المتلقى.
محمد هويدى – القاهرة 1979
Subscribe to:
Posts (Atom)