قصَّةُ بَقرَتَيْن! TALE OF TWO COWS! بقلم/ كمال الجزولى


صديقى سمير عبد الباقى ، شاعر العاميَّة المصريَّة الكبير ، من أشعر خلق الله ، ومن أظرف خلق الله ، ومن أكثر خلق الله إثارة للجدل فى مناخات القاهرة المشبّعة ، أصلاً ، بالجدل سياسياً وفكرياً وأدبياً! سهرت فى ضيافته ، هذا المساء ، بصحبة الياس فتح الرحمن ، الشاعر والناشر الجميل ، وهشام السلامونى ، المفكر والناقد الستينى المرموق الذى هجر طبَّ العيون لينشغل بأسئلة مصر والسودان والعالم العربى الشائكة
ولسمير أسلوبه الفريد فى التعبير عن مشاعره. فحين دلفنا ثلاثتنا من باب شقته الصغيرة التى يعيش فيها وحده وسط حى شبرا الشعبي كنت تهيَّأت لأن أعزيه فى زوجته التى توفيت قبل سنة وما سمعت إلا اليوم. غير أننا ألفينا سميراً منهمكاً فى الردِّ على محادثة تلقاها للتوِّ. كان يصيح برنَّة يجهد لجعلها أقرب إلى المرح ، مع أنه كان واضح الاحتشاد بحزن كالجبل
ـ "يا عمِّ خلاص! ألف رحمة ونور عليها .. كفاية! عايز تواسيني قول لي كلام يفرَّحني وبلاش غلب .. أرجوك"!
ثمَّ ما لبث أن علق سمَّاعة التلفون ليندفع يعانقني بتلقائيَّته الدافئة فى ليل القاهرة الصقيعي:
ـ "والله زمن يا عمِّ كمال .. بقى ده اسمو كلام؟! فينك يا راجل .. بقالنا سنين ما بنشوفكش .. هُمَّ اعتقلوك تاني ، وللا الياس بياخدك مننا ، وللا إيه الحكاية بالضبط"؟
بدا لى ، لحظتها ، أننى إن لم أسقط جُلَّ عبارات العزاء التى كنت أعدَتها ، فسيقول لى فى وجهى إننى ثقيل! لذا اكتفيت بإدغام عبارة "البقية ف حياتك" بين جلجلة القهقهات التى فرقعت فى غرفة الاستقبال الصغيرة. لكنه ، وكأنْ لم يسمع شيئاً ، إنطلق يصيح ، عبر النافذة ، لبائع الكباب والكفتة فى الدور الأرضى كي يصعد بطلبات العشاء ، بينما كان يلتقط من رفِّ المكتبة أحد دواوينه القديمة ، ويصيح بذات الحماس:
ـ "إستنوا .. استنوا لما أقرالكم القصيدة إللى كنت أهديتها لكمال وجيلى ، بعد انقلاب السودان ، لمَّا كمال أعتقل وجيلى توفى"
ورغم أننا كنا سمعناها ، من قبل ، إلا أن طلاوة الصور وفرادة التراكيب وحلاوة الإلقاء المتمكث العميق ، أخذتنا جميعها على موجة عالية من المتعة والتأمل ، وجعلتنا نستزيده ، القصيدة تلو القصيدة ، حتى انقضت السهرة وهو يضع ديواناً ويرفع آخر ، بما فى ذلك "نهنهات المشيب" ، "جمر مطفي فى حرايق الروح" ، "ولا هُم يحزنون" ، "دفاتر إبن عبد الباقي ـ آخر حدود الزجل" ، فضلاً عن إصدارته غير الدوريَّة الموسومة بـ "شمروخ الأراجوز" التى درج على تذييلها بعبارة "نشرة شعريَّة مصريَّة على قدِّ الحال. لا جريدة ولا جرنال ولا حتى مجلة. ومستقلة عن أىِّ حزب وأىِّ مِلة. عايشة بنفسكم مش بسِّ بفلوسكم. والغاوى ينقط بطاقيته. وأهلاً بالأصدقاء ، زجَّالين وفنانين وشعراء"
يحزننى أن إبداع سمير ما عاد معروفاً كثيراً فى السودان ، مع أن اسمه كان يرنُّ بيننا رنيناً وهو بعد فى بداياته قبل زهاء الثلاثين سنة ، خاصة عندما شكل مع المرحوم الموسيقار المُغنى عدلى فخرى ثنائياً ثورياً هزَّ أوساط الشباب والطلاب ، بالذات ، هزَّاً عنيفاً ، بالأخص عندما ذهبا ليعيشا مع اللبنانين مآسى الحرب الأهليَّة ، ومن هناك كانت تخرج أشرطتهما لتجوب الآفاق العربيَّة بأسرها ، من البحر إلى البحر